العروبة والتحدي الأميركي والصهيوني..الصراع الدائر في سورية سيقرر مصير الدول الكبرى للعقود المقبلة

العروبة والتحدي الأميركي والصهيوني..الصراع الدائر في سورية سيقرر مصير الدول الكبرى للعقود المقبلة

تحليل وآراء

الأحد، ١٥ مارس ٢٠١٥

من الضروري تبيان خصائص العروبة في سورية الكبرى لأنها تختلف عن باقي دول العالم العربي للأسباب التالية: أولاً، لقد تم تقسيم سورية الكبرى من البريطانيين والفرنسيين تنفيذاً لاتفاق سايكس – بيكو، وهذا لم يحدث بالنسبة للدول العربية الأخرى.
ولأن التقسيم اصطناعي، ظل الواقع على الأرض يعكس حقيقة الوضع ألا وهو أن أي مساس بأي كيان من كيانات سورية سيؤذي لا محالة الكيانات الأخرى. لقد كان الرئيس حافظ الأسد واعياً لهذه المفارقة لذلك اعتبر أن حرب الخليج الأولى لن تضر العراق فقط بل بلاد الشام أجمع(1). وقام بالتدخل في لبنان مع بداية الحرب الأهلية عام 1976 للأسباب نفسها، وخوفاً من أن يطول الحريق سورية.
ثانياً، لم يكن التقسيم فقط من أجل إحكام قبضة المستعمر، والمعروف أن هذه السياسة اتبعتها الإمبراطورية البريطانية في كل مستعمراتها على أساس المقولة الشهيرة: Divide and rule (قسّم وأحكم)، بل إن سبب تقطيع سورية الأساسي هو تدمير مجتمعها المتآخي كما كان قبل الحرب العالمية الأولى، وتحويلها إلى كيانات طائفية ومذهبية. عمل الفرنسيون والبريطانيون على إقامة مناطق تمييز طائفي- عنصري، فلم تكن التقسيمات الجغرافية عشوائية لأنهم أرادوا أن يتبلور تيار من الكراهية وعدم الثقة بين سكان سورية، فتنتفي أية إمكانية لإيجاد قواسم مشتركة تؤدي إلى بناء المواطنة. وأظهرت الدراسة الموثقة التي قامت بها لجنة كينغ- كراين الأميركية عام 1919، أن سكان بلاد الشام في أغلبيتهم المطلقة أيدوا البقاء كوحدة جغرافية ورفضوا التجزئة.
نجح الفرنسيون في سلخ محافظات سورية وضمها إلى جبل لبنان الذي أرادوا أن تكون رئاسته مسيحية- مارونية، كما أنهم بادروا إلى تحويل ما تبقى من سورية إلى مقاطعات سنية ودرزية وعلوية، لكنهم فشلوا في ذلك.
ثالثاً، وهذا الأهم، هدف «التقطيع» الطائفي إلى إضفاء الشرعية للاستيطان اليهودي الغربي لأرض فلسطين، أو سورية الجنوبية كما كانت تُسمى آنذاك. فاليهود يمثلون دينا كما الطوائف المسيحية والمذاهب الإسلامية. وهكذا تضمحل الدولة القومية المبنية على أساس حماية حدودها الجغرافية، والذود عن مجتمعها المكون من مواطنين متساوين بمعزل عن دينهم أو معتقدهم أو عرقهم أو جندرهم، لتفتح المجال أمام طوائف وأديان تتصارع، ونحن نعرف أن لا حدود جغرافية للأديان بل فقط للدولة القومية، فالدين كالثقافة ينساب من ضفة إلى أخرى.
قلائل من السياسيين والمفكرين العرب تنبهوا آنذاك أن المستوطنين الصهاينة يحملون إيديولوجية إنشاء دولة «قومية يهودية» تقتلع أهلها الأصليين تحت العنوان العنصري نفسه الذي على أساسه أقامت سايكس – بيكو الكيانات الطائفية.
رابعاً، إضافة إلى التقسيم الطائفي، عمد المستعمر الغربي إلى تحجيم المساحة الجغرافية لبلاد الشام وأعطى لواء الاسكندرون  لتركيا عام 1939.
خامساً، إذا نظرنا إلى الخريطة الجغرافية لبلاد الشام قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، لوجدنا أن التقسيم الذي لحق بسورية هو تقسيم جيو- استراتيجي، فالاسكندرون ولبنان الكبير والكيان الصهيوني تطل جميعها على البحر الأبيض المتوسط. بكلمات أخرى سُلبت سورية من قوتها المتأتية من امتدادها البري كما من مكانتها كقوة بحرية تمسك بشاطئ المشرق العربي بأكمله، ما لذلك من تبعات كارثية ليس فقط على الصعيد السياسي، بل الاقتصادي والاجتماعي أيضاً.
 
مواجهة التحدي الصهيوني والأميركي
 في المضمار السياسي والعسكري
إن الصراع الدائر في سورية وحولها، سيقرر ليس فقط مصيرها، بل مصير الدول الكبرى للعقود القادمة. فهل ستظل الولايات المتحدة الأميركية مهيمنة على العالم؟ هل ستنتهي هذه الحرب وقد تغير وجه التاريخ من أحادية إلى تعددية في الأقطاب؟ وفي هذه الحال ما مصير الكيان الصهيوني؟ فمن المعروف من أمثلة التاريخ أن المستعمرات والمستوطنات تدوم ما دامت الدولة الأم تمد المستوطنة بالمال والسلاح، أما في حال تراخيها، فتتلاشى المستعمرة.
إن منطقة الهلال الخصيب في وجه العاصفة الصهيونية. كانت كذلك منذ نشأة إسرائيل، لذلك قرر الغرب الاستعماري تقسيمها، كما أنها مركز الصراع لأن حلم «إسرائيل الكبرى» الاستيلاء عليها لا السيطرة على منطقة أخرى. إنه صراع وجود لا مكان فيه لأنصاف الحلول، فإما أن نكون أو تكون «إسرائيل». ولقد عملت الولايات المتحدة الأميركية ما بوسعها لدعم هذه الأخيرة منذ الحرب العالمية الأولى كما تؤكد لنا الباحثة اليسون وير (2).
لن تتوقف الحروب ضد سورية الكبرى ما دامت المستعمرة الصهيونية على قيد الحياة، فهي تريد أرضنا وخيراتنا وحتفنا.
يبدو لي أن مآل هذه الحرب بالذات يؤذن بانكسار الهجوم الأميركي، وانحسار المد الغربي، فمنذ بداية الأحداث عام 2010 تبين أن الولايات المتحدة الأميركية كما «إسرائيل» عاجزتان عن إرسال جنودهما إلى ساحة الحرب، واستعيض عن ذلك بالطلب من الحلفاء تجنيد قوات إسلامية متشددة من إخوان مسلمين إلى وهابية تكفيرية تفتعل فتنة دينية- مذهبية على أرض سورية. فمن موّل وسلح وبعث بالتكفيريين هم دول الخليج (وخاصة السعودية وقطر)، وتركيا. ولقد برهنت الأحداث أن سايكس – بيكو نجح في دق إسفين بين الأردن ولبنان من جهة، وسورية من جهة أخرى إذ إن هاتين الدولتين وبدلاً من العمل لإطفاء الحريق المنتشر في الجوار، عمدتا إلى تسهيل مرور الإرهابيين وسلاحهم لقتال الدولة السورية. ومن الطريف فذلكة وتبرير فتح الحدود اللبنانية بأنه «نأي بالنفس» أيام رئاسة ميشال سليمان.
وعلى الرغم من مآسي السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة ومئات ألوف النازحين السوريين وتمركز الإرهابيين التكفيريين على طرفي الحدود السورية- اللبنانية، ما زال لبنان يرفض التنسيق مع جارته سورية لما فيه مصلحة البلدين. وتدعم الإدارة الأميركية هذا الموقف لأنها ترفض أي تعاون بين كيانات بلاد الشام لأن التنسيق فيما بينها يعني ازدياد قوة سورية في مواجهة «إسرائيل».
حاولت الولايات المتحدة الأميركية خلال أعوام الحرب شق الجيش على أسس طائفية- مذهبية ولم تنجح لأن العقيدة القومية- الوطنية  للجيش السوري كانت الأقوى.
كذلك تملك المواطنين للشعور الوطني منع انشقاق موظفي مؤسسات الدولة إلا من أعداد هزيلة لا تمثل فارقاً في موازين القوى، ما يشهد لوطنية السوريين على الرغم من الإغراءات الجمة المادية والمعنوية التي عُرضت عليهم، وفي ظروف صعبة للغاية لهم ولعائلاتهم.
هذا الصمود لفترة زمنية طويلة سمح بانكشاف الخطة الغربية المرسومة لضرب سورية وخط المقاومة الممتد من طهران إلى بيروت. وما دعم «إسرائيل» لجبهة النصرة إلا الدليل على ارتهان هذه الأخيرة للعدو، وكذلك باشر العديد من قياديي الائتلاف الاعتراف بـ«إسرائيل» والتلويح بأنهم يتخلون عن الجولان في حال تبوئهم السلطة!
كلما مرّ الزمن تبين لنا أن هذه الحرب لا علاقة لها بالإصلاح أو الديمقراطية أو التقدم الاجتماعي ولا حتى بصراع ديني- مذهبي، فهذا الأخير هو بمنزلة البروباغندا لاستقطاب الإرهابيين التكفيريين الذين يُستعملون كوقود بشري في المعركة، فهم المرتزقة المطلوب انخراطهم في الحرب كي تُهزم سورية وتوقع سلما مع «إسرائيل» ينهي المقاومة. تمددت هذه القوى التكفيرية لتشمل كل أقطار المشرق العربي من دون أي استثناء وهدفها المعلن تدمير كل أشكال وأنماط الحضارة التي ترفل بها دول المنطقة.
موقع سورية الجغرافي في غاية الأهمية، فهو يتحكم بشرقي البحر الأبيض المتوسط، كما أنه المدخل إلى آسيا الوسطى التي يعتبر زبيغينيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق للرئيس كارتر، أن من يحكمها يحكم العالم لثروتها المعدنية والغازية (3). ثم إن سورية الكبرى نمت وازدهرت قديماً لوجودها على «طريق الحرير» الممتد من الصين إلى أوروبا.
أحد غايات المستعمر إذاً إلغاء السيادة السورية كي يتمكن من استعمال الأرض كممر للمواد الأولية من دول آسيا إلى الغرب، وبالتالي من أهم مهمات الأمن القومي السوري الدفاع عن الموقع الاستراتيجي لسورية ضمن المنظومة الدولية وتحالفاتها بشكل يضمن مصالحها.
الصراع على أشده الآن لإلحاق سورية بالمحور الأميركي والغربي. ومن المعروف أن شمعون بيريز يعتبر أن لا ضرورة لسيطرة «إسرائيل» بالسلاح على المنطقة إذ يكفي أن تكون الهيمنة اقتصادية (4).
«إسرائيل» تريد أن تبيع الغاز الذي تستخرجه من فلسطين المحتلة إلى أوروبا، وكذلك قطر، لكنهما لا تستطيعان ذلك دون المرور في المياه السورية ومنها إلى تركيا فأوروبا. لهذه الأسباب اشتركت قطر في الحرب على سورية كي تثبت نظاماً موالياً لـ«إسرائيل» يسمح بانتقال الغاز. ودعمت الولايات المتحدة هذه الخطة لأنها بذلك تقضي على اقتصاد روسيا التي تغذي أوروبا بالوقود، وآزرت هذا الموقف تركيا العضو في حلف الناتو، والتي تحلم ليس فقط في إعادة أمجاد السلطنة العثمانية، بل أيضاً في مد أنابيب غاز عبر أراضيها من دول آسيا الوسطى الموالية للولايات المتحدة الأميركية.
حرب الغاز والنفط القائمة ستقرر مصير دول كبرى، وسورية في قلب هذه المعركة، فإن انتصرت، فازت معها روسيا والصين وبالطبع إيران، الداعم الأكبر للمقاومة، ضد الاحتلال الأميركي والإسرائيلي.
 
الأمن القومي السوري
 في مواجهة مشروع التفتيت الصهيوني
محاولة زعزعة الأمن القومي السوري لا تتوقف فقط على الحرب وتسعير نارها بمدها بالتكفيريين الوهابيين، بل تتعداها في حال التوقف عن الحرب والبدء بالتفاوض إلى فرض نظام يعتمد على التمثيل الإثني والطائفي فيما يسمى «حكومة انتقالية» على سورية أن ترفض كل أشكال «الديمقراطية التوافقية» التي تطالب بها الولايات المتحدة الأميركية، فهذه الأخيرة تطرح مشروعين سياسيين: التقسيم أو التقسيم! فإما التقسيم إلى أقاليم إثنية ودينية كما يحدث في العراق، والمحافظة فقط على الشكل الخارجي لدولة عراقية على أساس الفيدرالية أو حتى الكونفدرالية التي هي أسوأ بكثير، أو الانفصال والاستقلال كدول إثنية وطائفية.
تريد الولايات المتحدة الأميركية أن تكسب بالسياسة ما خسرته بالحرب، وتطبيق «الديمقراطية التوافقية» عنوة في العراق وسورية بعد أن تلمست نجاحها في لبنان في إبقاء البلد بحال شلل دائم، وتحت السيطرة، دون الاضطرار إلى إرسال قوات عسكرية، ولقد نجح بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق بعد احتلاله في مسعاه بعد أن وضع دستوراً يحاكي التقسيمات الإثنية والمذهبية.
تنطلق «الديمقراطية التوافقية» من فكرة بناء نظام سياسي يمثل الأصول الإثنية والطائفية إلا أنه قطعاً لا يمثل الشعب. إطلاق تسمية «ديمقراطية» هي تسمية زائفة لأن الديمقراطية تعني سلطة الشعب وسلطة المواطنين لا سلطات مختلفة بحسب هوياتها الدينية. إن أي قبول لمبدأ التقسيم الطائفي ضمن المجتمع الواحد يعني القبول بفكرة التمثيل السياسي على أساس الولادة ضمن حيز طائفي أو إثني، فتنتفي الإرادة الشخصية أو القرار الوطني وتتحول الدولة إلى حلبة صراع بين «أقليات» و«أكثرية» طائفية لا إمكانية لتغييرها لأنها تقسيمات عامودية، بدلاً من أن تكون الأكثرية هي أكثرية المواطنين الذين يدعمون برامج سياسية واقتصادية واجتماعية في مقابل أقلية تطالب بتنفيذ برنامج آخر.
بمجرد إرسال قواعد الديمقراطية التوافقية يتم إلغاء إرادة الشعب الواحد بعزل عناصره بناء على المبدأ الطائفي أو الإثني، وبذلك يتم القضاء على الأمن القومي لبلاد الشام وتصبح كل فئة تنشد مصالح مرتبطة بالخارج وتعمل ضد الفئات الأخرى. «5»
تتعرض المنطقة لتدمير جيوشها عبر إثارة النعرة الطائفية- الإثنية العنصرية بدءاً من الحرب الأهلية في لبنان، ثم في العراق، حيث يُقترح إقامة جيش في كل إقليم بحسب الهوية الإثنية أو المذهبية، وتنصب على سورية موجة تكفيرية عاتية تريد القضاء على الجميع باسم الفكر الوهابي إلا أن الجيش يتصرف بناء على عقيدته القومية الجامعة لمكونات الوطن ويصمد في دفاعه عن هويته وعن مواطنيه في حرب شاملة عليه.
يدفع الغرب الاستعماري باتجاه ما يسميه الديمقراطية التوافقية لأنه يريد تفتيت المجتمع والجيش على أسس الطائفة والمذهب والعرق، فالهاجس الأكبر للولايات المتحدة الأميركية ضمان وجود دولة «إسرائيل» الاستيطانية الدينية العنصرية.
 
عروبة سورية
لقد أنجزت سورية الكثير، الكثير خلال الأربع سنوات الماضية من الحرب:
أعادت الحرب على سورية لمِّ شمل بلاد الشام بعد مرور مئة عام على تقسيم سايكس- بيكو، فسقطت الحدود المصطنعة المدمرة للأمن القومي السوري، والتحمت الجبهات كافة في حربها على الإرهاب التكفيري لمعرفتها أن سقوط إحداها يعني سقوطها جميعاً، فجبهة القلمون وجبهة شبعا، والحدود كلها أصبحت جبهة مشتركة بين سورية ولبنان مهما كابر الذين يريدون إرضاء الغرب الغازي، وحدود سورية والعراق اضمحلت أمام التعاون للدفاع عن حضارتهم المشتركة في مواجهة غزو يريد إلغاء وجودهم.
لقد تكاتفت القوى الوطنية لدرء خطر الاندثار، وبدأت سورية باستعادة موقعها، فما كان من العدو الصهيوني إلا ضرب رموز التحالف الذي يقودنا إلى الانتصار، فشهدت المقاومة ممثلة بإيران وسورية ولبنان في القنيطرة، التلاحم حتى الاستشهاد لمن ينشد الحرية لسورية بما فيها فلسطين، وأسقطت القناع عن جبهة تعمل لمصلحة الكيان الصهيوني.
إن إعادة سورية الكبرى إلى حجمها الطبيعي عبر تعاون دولها لإنشاء جبهة دفاع مشترك، واتخاذ موقف موحد تجاه العدو التكفيري- الصهيوني، يسمح لها بالذود عن أمنها وأرضها ودحر العدو بدلاً من الهزيمة المتأتية من تقسيمها، فشرط الانتصار هو التعاون على أساس أن كياناتها جسد واحد، وإذا نظرنا إلى الخريطة لوجدناها كتلة كبيرة تستطيع الدفاع عن نفسها في مواجهة المطامع الدولية أو المطامع الإقليمية كتركيا و«إسرائيل».
لقد أنهى محور المقاومة فصل المسارات الذي أخضع البلدان العربية للذل والإنهزام من كامب دايفد إلى اتفاقيات وادي العربة وأوسلو.
بادر نتنياهو في التخلي عن قواعد اللعبة القديمة حين هاجم قياديين ينتمون إلى إيران وحزب الله ما بعد خط فض الاشتباك الفاصل بين سورية و«إسرائيل» في الجولان، ما سمح لمحور المقاومة بالرد في أي مكان وليس فقط في لبنان، وهذا إنجاز كبير سيزيد من قوة المقاومة ومن اتساع حركتها لتصبح مقاومة سورية- فلسطينية- لبنانية تمتد على طول الجبهة الشمالية للكيان الصهيوني، وها هي «إسرائيل» تضرب أخماساً بأسداس مخافة فتح جبهتها الشمالية بكامل حدودها من القنيطرة إلى الناقورة بعد تصميم سورية على ترسيخ مقاومة جولانية.
تنشد عروبة سورية اللحمة بين جميع مواطنيها وعدم التمييز بين طائفة وأخرى أو مذهب وآخر أو إثنية، فالجميع مواطنون متساوون لهم الحقوق والواجبات نفسها. فعروبة سورية تختلف عن عروبة شمال إفريقيا حيث لا يوجد هذا التنوع الغزير الإثني والديني المتأتي من الغزوات العديدة التي شهدتها المنطقة على مدار تاريخها الطويل، لذلك من غير الممكن اعتبار أن العربي مسلم سني بالضرورة لأن سورية الكبرى تحتوي على عرب مسيحيين، وعشرات المذاهب والملل الإسلامية، كما أنه من غير الجائز اعتبار السوري الوطني بأن إثنيته عربية إذ أن العديد من المواطنين السوريين هم من أصول مختلفة إلا أن اشتراكهم في الحياة ضمن حدود الوطن الواحد يعني أنهم يواجهون مصيراً واحداً، نفهم العروبة هنا بالمعنى الثقافي الحضاري لا الإثني لأن التعصب الإثني يقودنا إلى التفرقة وإلى حروب أهلية تنتهي بتقسيم الوطن.
العروبة تعني اليوم قبل أي شيء آخر العودة إلى المفاهيم القومية- الوطنية، أي القومية القائمة على الوحدة الجغرافية والعيش المشترك، فهي قومية وطنية علمانية ديمقراطية تحتكم إلى الشعب الذي هو مصدر السلطات لا إلى الإثنيات والطوائف. ولبلوغ هذا الهدف على حكومات دول المشرق وضع نصوص قانونية تمنع تشكيل أحزاب من لون طائفي واحد، فما يجمع الأعضاء في الحزب لا يجب أن يكون هويتهم العنصرية بل البرنامج السياسي- الاقتصادي الذي يؤمن الازدهار لبلدهم.
إن وضع برامج تتوخى المصلحة العامة سيطغى على الانقسامات العامودية التي لا طائل منها، كما أنه يوفر أرضية للالتقاء بين هذا الحزب والأحزاب الأخرى التي على شاكلته والموجودة في العراق والأردن وفلسطين ولبنان وسورية.
أخيراً، الدعوة إلى «ثورة دينية تصحيحية» أمر ملح لكنه غير كاف للقيام باستدارة تلغي ثلاثين سنة من التحريض الديني الوهابي الذي دعمته ونشرته الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان لمحاربة الاتحاد  السوفييتي ما هو مطلوب بشكل أساسي إعطاء الأولوية المطلقة، ورد الاعتبار للمفهوم القومي- الوطني وإعلاؤه فوق الشأن الديني، لأننا حين نفعل ذلك نكون قد قمنا بعملية دمج العناصر كلها ضمن المجتمع الذي يتطلع باتجاه سؤدده ومصلحة الوطن لا المصالح الخاصة.
ظنت الولايات المتحدة الأميركية أنها بمؤازرتها لحلفائها في المنطقة بدءاً من تركيا، وقطر والسعودية تستطيع أن تلحق سورية بالدول العربية التي اعترفت بوجود دولة «إسرائيل» وأن تزيل محور الممانعة الذي يترأسه الدكتور بشار الأسد، وتكون بهذا العمل قد أعلنت انتصارها النهائي في الحادي والعشرين، إلا أن التطورات الميدانية قضت على أحلام الولايات المتحدة الأميركية، فالجيش والشعب السوريان استطاعا إيقاف كتلة النار الملتهبة ما جعل لهيبها ينتشر في دول مجاورة وبعيدة.
لقد تلاشت حدود سايكس- بيكو التي طالما جاهدت الولايات المتحدة الأميركية للحفاظ عليها كي لا تقضي سورية الموحدة الأهداف على «إسرائيل»، رأس حربة الغرب الاستعماري في المنطقة، عادت سورية إلى حدودها الأصلية، وفُتحت جبهة المقاومة على طول الحدود مع الكيان الصهيوني بعد أن كان عملها منحصراً في جنوب لبنان.
بعد تلاشي حدود المستعمر بين سورية ولبنان من جراء التحام حزب الله والجيش السوري في حربهم المشتركة على الإرهاب التكفيري، وبعد تعاون الجيشين السوري والعراقي في محاربة الدولة الإسلامية المنتشرة شمال سورية والعراق معا، ها هو الأردن يعيش هاجس الإرهاب التكفيري الذي ارتد عليه وبالا بعد أن ظن أنه يستطيع أن يصدره دون أن تلحق به النار.
لقد اخترقت الدولة الإسلامية حدود الدول المشرقية، كما قفزت «إسرائيل» فوق الخط الفاصل في الجولان ظناً منها أنها بصدد التقدم في مسيرتها الاستعمارية فيما سورية مشغولة بصد الإرهاب لم تحسب «إسرائيل» أنها بعملها هذا فتحت الباب واسعاً لإضفاء الشرعية لمقاومة سورية، تحت بند الدفاع عن النفس، والذي تكفله المواثيق الدولية، كما اسبغت شرعية لتدخل إيران بعد أن استشهد أحد قادتها على أرض الجولان، باسم الدم المراق، وباسم العدالة والتصميم على إعادة المقدسات إلى أهلها.
المعركة طويلة لكن النصر يلوح لأننا قررنا المواجهة.
 
مصادر
1 – بثينة شعبان، عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990- 2000 بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 2015، صفحة 37: «إن أي أذى يصيب العراق هو أذى يصيب سورية والأمة العربية جمعاء».
2 – Alisson Weir. ‘Against our better Judgment’ Canada. Vancouver. 2014
3 – Zibigniew Brzezinski. The Grand Chessboard. Now York: Basic Books. 1997. p.31.
4 – Shimon peres. ‘The Now Middle East’ London: Henry Holt and Co. 1993. p. 139
5 – راجع مقالتي «الديمقراطية التوافقية نظام الدولة الفاشلة»، جريدة الأخبار، 29 كانون الثاني 2015.
 
نص المحاضرة التي ألقيت في ندوة «العروبة وأسئلة النهضة» في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق.