تحليل الخطاب السياسي بين الخيال والواقع.. بقلم: عبد الفتاح عمورة

تحليل الخطاب السياسي بين الخيال والواقع.. بقلم: عبد الفتاح عمورة

تحليل وآراء

الخميس، ١٢ فبراير ٢٠١٥

تحدثتُ في عددٍ سابق في مجلة الأزمنة عن مفهوم تحليلِ الخطاب السياسي، وعرَّجتُ على مفهوم السياسة وهدفها، ومررت على اللغة ومضامينها وتراكيبها بشكلٍ موجز. سأحاول في هذا العدد أن أتحدث عن واقع السياسة بين التمثيل اللغوي، وما يمكن أن يحمله هذا التمثيل من معنى وعمل ووسيلةٍ، لتحقيق هدف محدد أو عدة أهداف.
لكل سياسةٍ هدف، والهدف يمكن أن يكون آنياً أو إستراتيجياً، وبالتالي يوجد فيه تكتيكٌ يبني رُحَى للمستقبل، وتخطيطٌ لبناء أسوار وأساساتٍ من رُحَى تختزن كل منها فكرة؛ فتجتمع الأفكار لتشكيل جسد السياسة العامة للدولة. وجميعها تعكس فكر وأيديولوجية المتكلم والكاتب.
أما تحليل الخطاب السياسي، وكما ذكرت، هو محاولةُ تفكيك الكلام واللغة المستخدمة في سياق وزمن وحالة محددة، ومعرفةُ وظيفة كل أداة لغوية، وكيفيةٌ ارتباط تلك الأدوات مع بعضها بعضاً، ومع الحالة والسياق والزمن، ومقارنة المدى الذي أنجزت فيه تلك الأدوات اللغوية وظيفتها في تحقيق الهدف المنشود. ولكن قلتُ أيضاً، كما قال العديد من علماء السياسة، إنّ لغة السياسة يسودها الوضوح أحياناً، والغموض أحياناً أخرى، وبالتالي فإنّ مهمة المحلل السياسي هي إما دحض ذلك الوضوح، أو توضيح الغموض، ودعم ذلك بالحجة والمنطق كي يقنع الجمهور والرأي العام الداخلي والخارجي.
حتى يقوم المحلل بذلك بالشكل والمضمون الصحيحين، عليه أن يجيب على الأسئلة التي طرحتها في العدد السابق. وعليه أن يدقق في كل مفردة وتعبير ومصطلح وجملة ونص، ليرى كيف يتطابق ذلك كله مع ما يزعمه ويُسوِّقه، وفق المنطق والعقل والمعايير الدولية المتعارف عليها، ووفقاً للسلوك المنطقي لسيرورة الحياة وقوانين العدالة والحق. وهنا أريد أن أضيف الأسئلة التالية:
-    هل العمل الذي يمارسه السياسي منسجم مع تلك المبادئ ومع الدليل التطبيقي، وردود الفعل المحلية والعالمية عليه؟.
-    هل ستحقق إستراتيجية السياسيّ من حيث الواقع الأهداف التي يعمل على تحقيقها؟ وهل هذه الإستراتيجية كافية بالنسبة إلى الأهداف؟.
-    هل إستراتيجية السياسيّ ضرورية مقارنةً مع الأهداف؟ وما هي الوسائل البديلة التي يجب أخذها بالحسبان؟.
-    هل أهداف العمل مقبولة بشكل عقلاني؟ وما هي الأهداف الأخرى الواجب اتخاذها؟
-    هل التعابير اللغوية المعبرة عن القيم مقبولة؟ وهل تدعم الهدف والعمل من حيث الواقع؟.
-    هل سياق العمل معرَّف بطريقة مقنعة بشكلٍ منطقي؟.
-    هل العمل متجسد بطريقة مقبولة؟.
-    وأخيراً، هل أسباب الأزمة موضحة ومتجسدة بشكل مقنع للعقل؟.
إنّ الإجابة على هذه الأسئلة تعني أنّ التحليل ليس مجرد ضرب من الخيال، بل إنّه علم بعيد عن الروحانية والغيبية والغوغائية، وفرض الرأي على الآخر. فالآخر لديه عقل يفكر به، وله حساباته، وأنّ مهمة المحلل السياسي هي جعل ذلك الآخر يتقبل ما يقوله المحلل، أو على الأقل يغرس في ذهنه فكراً، بل أفكاراً أخرى غير تلك التي تمثلها البنية السطحية للغة المنطوقة أو المكتوبة.
دعونا نستعرض معاً التصريح الذي جاء في المؤتمر الصحفي بين كيري ولافروف قبيل الإعلان عن عقد اجتماع جنيف (2). فقد جاء في الإعلان، وضمن أمور أخرى، ما يلي: "تشكيل هيئة حكم انتقالية من الحكومة والمعارضة".
عندما يبدأ المحلل كلامه، فإنّه يدّعي بأنّ ما يقوله صحيح. إذاً يطرح ادعاء، وبالطبع له هدف، والهدف يجب أن يستند إلى القيم المعترف بها بشكل جماعي، أو وفق القانون وإلا سيتم رفضه فوراً. وجميعها تجري ضمن ظروف محددة. ولتحقيق الهدف لابد من وجود وسيلة، والوسيلة هي التعبير اللغوي والفعلي والتصرف. وهنا لابد للمحلل من تتبع أقوال وأفعال وتصرفات ذلك السياسي، وقياس مدى تطابقها وانسجامها مع القيم المعترف بها بشكل جماعي.
إذا طبقنا هذه المنهجية العلمية من حيث المنطق والعقل واللغة والسلوك على ما صدر عن كيري ولافروف في ذلك المؤتمر الصحفي، وحللناه تحليلاً علمياً لا خيالياً، وربطنا بين ما قاله كيري، وما تتصرف به الإدارة الأميركية، يمكن لنا أن نطرح الجدل التالي حول مفهوم كل مكوِّن من مكونات التصريح، وأن نخرج بالاستنتاج المنطقي التالي:
1.    "هيئة حكم انتقالية": إنّ مفهوم "الهيئة" يختلف عن مفهوم "الحكومة"؛ ذلك لأنّ الحكومة هي السلطة التنفيذية التي تتولى مهامها، وتتحمل مسؤولياتها وفق الدستور والقانون، وهي المخولة من قبل الشعب. أما مفهوم "الهيئة"، فهو أقل سلطة تنفيذية، فتبقى "هيئة" أو "مجموعة استشارية" تبحث في جذور الأزمة، وتقترح حلولاً لها. صحيحٌ أنّه وردت كلمة "حكم" بعد "الهيئة". وهذا يعني أنّ إطار عملها كان محدداً باقتراح "صيغةٍ للحكم" تكون كفيلة بالخروج من الأزمة، وتأخذ بالحسبان الظروف الراهنة، أي ضرورة تطبيق القانون وسيادته، والوقوف في وجه كل من يخرج عن القانون والأعراف والمواثيق الدولية، ودعم كل من يدافع عن الشرعية والمواطن.
2.    "انتقالية": إذا أخذنا بالحسبان مفهوم "الانتقال"، فلا أحد يختلف أنّه  حركة  إلى الأمام، ومن مكان إلى آخر، يسير فيها المشاركون على طريق محدد قد يكون ممهداً أو وعراً لتحقيق الهدف. لكن بالطبع يجب أن يكون ضمن الإطار المكاني لتلك الحركة، ومن قبل اللاعبين المعنيين، وعدم التدخل الخارجي، لضمان البقاء ضمن دائرة تحقيق الهدف، وهو السلامة والأمن والتطوير والتحديث والإصلاح. فلا يمكن أن يكون الانتقال مدمراً أو فوضوياً، أو غير منطقي، خاصةً إذا ما أخذنا بالحسبان حالات مشابهة جرت، وبرهنت الأحداث على خطورتها، وعدم نجاعتها في تحقيق الهدف. من هذا المنظور "للعملية الانتقالية"، يجد المرء أنّ الانتقال هو من أجل الخير وليس الشر، وأنّه حركة تطويرية وتحديثية، وهذا الذي كانت تسير عليه سورية نحو التطوير والتحديث، وهذا الذي قامت به الحكومة والقيادة السورية على مدار الأزمة، آخذة بالحسبان الظروف المحلية والإقليمية والدولية، فتصدت للتدخلات الخارجية، ودعت إلى الحوار وشجعت عليه، وسارت على طريقه.
3.    "من الحكومة والمعارضة": بالطبع، لابد لأية هيئةٍ من مكونات بشرية، والمكونات هنا كما جاء في الإعلان، هي "الحكومة والمعارضة". لكن دعونا نتوقف عند كلمة "الحكومة"، فلم يأتِ الإعلان على ذكر حكومةٍ، أي أية حكومة أو حكومة جديدة، بل جاء تأكيداً على الحكومة القائمة. أليس في ذلك تحوّل وتغيّر في الموقف؟. لقد كانت المطالب السابقة هي "تشكيل حكومةٍ انتقالية بكامل الصلاحيات". أما هنا في هذا التصريح، فيبدو أنّ الموقف قد تغير، وأصبح من الضروري مشاركة الحكومة، أي إقرار بشرعيتها ودورها وفعاليتها، والحاجة إليها. والحكومة يقودها رئيس منتخب وفق الدستور والقانون. إذاً، لم يعد مطلوباً تغيير الرئيس وتجريده من صلاحياته، بل تطوير النظام وتحديثه ضمن الظروف التي تسمح بذلك حتى لا نكون خياليين أو فوضويين. ومن هنا، يمكن القول إنّ على هذه " الهيئة " أن تعي ذلك وتتعاون بصدق لتحقيق الهدف، وعلى اللاعبين من الخارج، ولاسيما دول الجوار، أن يتحملوا المسؤوليات في إغلاق الحدود، ومنع تهريب السلاح، وتدريب المسلحين والإرهابيين، وتسهيل عملية تسللهم إلى الداخل السوري، كما على الآخرين أيضاً أن يوقفوا الدعم المالي والسياسي والإعلامي لهم، إذا كانوا حريصين على إنجاح الحوار". ألم يغدو واضحاً أنّ ما قامت به الحكومة وما تقوم به، هو للخروج من الأزمة وفق القانون، وهو ما ينسجم ويتطابق مع تحقيق هذا الهدف؟.
4.    أما إذا توقفنا عند كلمة "المعارضة"؟، فالسؤال هو من هي تلك المعارضة؟ هل هي معارضة الخارج أم الداخل، وأيضاً كل من لا يريد استمرار الحالة الراهنة؟!.وهل سمع أحد عن معارضة سياسية تحمل السلاح على الشعب، وتدمّر البنى التحتية للوطن والمواطن، وتعيث في الأرض فساداً؟. وهل تتقبل أيٌّ من الدول التي تدعم تلك "المعارضة" أن يجري على أراضيها نفس الشيء الذي يجري على الأراضي السورية؟، وماذا كانت ستفعل؟، ألم يتم التأكيد على الحل السلمي؟.
5.    وأخيراً، ما هي وسائل تحقيق الهدف؟ أليس الهدف هو التطوير والتحديث والخروج من الأزمة؟. الوسيلة هي الحوار، والحوار هو حوار العقل والعقلانية من أجل الأمن والاستقرار، وتحقيق التطوير والتحديث. فإذا كان أحد أطراف الحوار وداعميه يرفضون الحوار الآن، فكيف يمكن تشكيل "هيئة حكم انتقالية"؟. للأسف الشديد، كلما كان هناك مبادرة لدفع وتسريع عجلة الحوار، كلما شاهدنا ضغوطاً من قبل من لا يريد للشعب السوري الخروج من الأزمة، والضغوط هنا متعددة الأوجه والأنواع لمنع الحوار، ولمنع تحقيق الهدف، والمساهمة في زيادة تصعيد التوتر، وافتعال أحداثٍ تصبُّ في خانة قتل الحوار.
الحوار، هو الطريق الأسلم للخلاص والأمن والاستقرار والتطوير والتحديث؛ وأما الصمود، فهو صمود داعم للحوار لتحقيق الهدف.
أعتقد أنّه إذا فكرنا ملياً بهذا التحليل، فإنّنا نجيب على الأسئلة التي تم طرحها في هذا المقال. فلنكن واقعيين لا خياليين في قراءة الواقع حتى يكون تحليلنا واقعياً لا خيالياً.