تحليل الخطاب السياسي.. بقلم: د.عبد الفتاح عمورة

تحليل الخطاب السياسي.. بقلم: د.عبد الفتاح عمورة

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٨ يناير ٢٠١٥

الخطاب السياسي هو مجموعة من المفردات والعبارات والمصطلحات والجمل التي تحتضن جملة من الأفكار والأيديولوجيات, وتهدف إلى إقناع الجمهور بأنّ ما يقوله السياسي هو الصحيح والمثالي؛ ولهذا لابد من اتباعه لأنّه يهدف إلى الخير وليس الشر. فهو يتعامل مع التجريد وليس المادة؛ ذلك لأنّه يتعامل مع اللغة والثقافة والعادات والتقاليد.
 واللغة ليست مجرد أصوات يطلقها البشر, بل هي رموز تحمل في طياتها معاني وألواناً متجانسة تطرب الآذان, وتدغدغ المشاعر, وتحرك العقول, وإلا تحولت إلى مجرد ضجيج يصم الآذان. ولهذا توجد لغة الأدب والشعر والحب والموسيقا والفن والموعظة والاقتصاد والسياسة, وحتى لغة الجسد والعيون. لكل من هذه الأجناس اللغوية مفردات وتعابير ومصطلحات وصيغ وتقنيات لنقل الفكرة, وجميعها تعكس ثقافة المتكلم أو الكاتب. وبالتالي تجسد ثقافة المجتمع أو تحاول غزو ثقافة مجتمع ما، وتستبدله بهجين. فالرموز اللغوية هي الجسد, في حين أنّ الثقافة هي الروح التي تنفخ في ذلك الجسد.
 إنّ لغة السياسة هي لغة العواطف والمشاعر والتجريد, وليست لغة العقل والمنطق؛ فيها الصحيح وفيها الكثير الكثير من الكذب والنفاق؛ ذلك لأنّ السياسي يريد تسويق فكره وأيديولوجيته بصدق وإخلاص, وإما تسويقها وإن كان على حساب الحقيقة والواقع, خدمة لمصالحه وتوجهاته وإستراتيجيته الأنانية, والتي يحاول زرعها جميعاً في ذهن جمهوره أو الجمهور العالمي. من هنا تأتي أهمية فهم المعاني والمقاصد الحقيقية التي يبتغيها ذلك السياسي أو الدبلوماسي أو الإعلامي. وهذا يتم عبر محاولة تحليل الخطاب السياسي, وربطه بالظاهرة أو الحدث, وتحليل الظاهرة والحدث, ومتابعة اللغة المكتوبة أو المنطوقة التي تعكس ذلك التطور الفكري والثقافي, بهدف الوصول إلى معرفة حقيقة الواقع.
 فما هو تحليل الخطاب السياسي؟ وكيف يمكن أن يساعد في فهم المعنى والمضمون الحقيقي لما يقوله الكاتب أو المتكلم, وبالتالي الغوص إلى أعماق فكره, وكشف أيديولوجيته, وما يخطط له؟ وتتبع التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمع ما؟. جميعها أسئلة سأحاول الإجابة عليها في المقالات التي سأنشرها في الأعداد القادمة من مجلة الأزمنة.
 سأبدأ أولاً بهذا المقال عن تحديد مفهوم الخطاب السياسي
 عند اندلاع أزمة ما, سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، وسواء في زمن الحرب أم السلم، يتعرض الجمهور إلى وابل من العصف والقصف بمصطلحات ومفردات وتقنيات لغوية, وبفلسفات فكرية وأيديولوجية يسودها الوضوح أحياناً, ويشوبها الغموض أحياناً أخرى, وتكثر فيها التحاليل, وتتكاثر الأقاويل كالخلايا السرطانية, ويندفع المحللون ليتصدوا لتلك الأزمة إما بالفكر والعقل والعلم والعقلانية, وإما بالخيال والوهم والغيبية وعقلنة اللامعقول, يصيب البعض الهدف, ويخطئ البعض الآخر, ويكثر الهواة ليتراشقوا السهام فتصيب الضحية, وتضيع الحقيقة, وتصبح الفوضى الفكرية سيدة الموقف.
فالتحليل السياسي هو علم الدلالة والبراغماتية والنحو, وكذلك الثقافة, وعلم السياسة والنفس والاجتماع والتاريخ والجغرافية والقانون والعلاقات الدولية والإستراتيجية...الخ. ولهذا لابد لأي محلل إلا أن يسأل نفسه عدة أسئلة, ويحاول الإجابة عليها, ومنها:
1- أسئلة تتعلق بموضوع الخطاب السياسي
 - ما هو موضوع الخطاب السياسي المطروح؟ هل هو عن ظاهرة محلية تخص مجتمعاً محدداً أم أنّه ظاهرة عالمية؟. وهنا يمكن أن نتساءل أي موقع يحتله الإرهاب مثلاً؟ وهل المجتمع الدولي جاد في محاربة الإرهاب ومكافحته, واقتلاعه من جذوره, وتجفيف منابع تمويله وتدريبه وإمداده بالسلاح؟ وهل احتلال أراضي الغير بالقوى إرهاب أم عمل مشروع؟ وهل مقاومة الاحتلال إرهاب؟! ألم تتحرر أوروبا من النازية والفاشية بالمقاومة؟ ألم تتحرر شعوب العالم من الاستعمار بالمقاومة؟ فهل من يريد محاربة الإرهاب ينتظر الذئب حتى يصل إلى الأبواب أو يقتحم الديار كي يستنفر جميع قواه ويعلن النفير العام, لكنه يرفض التعاون والتنسيق مع من يحارب الإرهاب فعلاً؟ وهل يعقل أنّه لا يدين عملاً إرهابياً حقيقياً يحدث في بلد يحارب الإرهاب؟ وهل تتم محاربة الإرهاب بتشجيع ثقافة القتل والكراهية والاستبداد الفكري والفوضى المدمرة, أم بالعلم والمنطق والعقلانية والنظام والقانون ومعايير واحدة ومشتركة من السلوك الدولي وفق القانون الدولي, وليس معايير مزدوجة؟ أسئلة أخرى كثيرة أتركها للقارئ العزيز ليفكر بها ويضيفها.
- من الذي سمّن العجول والذئاب، وهل فكر مرة واحدة، وتعقل, وحسب ألف مرة لا بل مرة واحدة بعواقب أعماله وممارساته الفعلية؟ بالطبع هذا الكلام ليس للتشفي, وإنما نداء صادق عسى أن تصغي إليه الآذان، وتفكر به العقول لكي تتشابك الأيادي لتقتل الذئب في الغابة قبل أن تتكاثر الذئاب كالخلايا السرطانية, فتهيج مسعورة, وتدخل المدن لتفترس ضحاياها بعد أن يكون قد فات الأوان.
2- أسئلة تتعلق بالتسلل المنطقي للجدل التحليل الذي يطرحه المحلل.
 - هل ما يؤكد عليه المحلل ويقوله صحيح أم زائف, وكيف يمكن أن يبرهن عليه؟
 - هل يوجد أي جدل مضاد لما يقوله ويؤكد عليه, وكيف يمكن دحض ذلك الجدل بالمنطق والعقل والعقلانية؟
 - كيف يمكن أن يشرح ويبرر جدله، وما هي التعابير والمصطلحات اللغوية التي يستخدمها ويستند إليها في دعم ما يزعمه؟
- هل البنية اللغوية والثقافية التي يتحدث بها منطقية، وتعكس ممارسة اجتماعية وسياسية متعارفاً عليها؟
3- أسئلة تتعلق بسياق الخطاب السياسي
- ما هي الحالة التي ينطق بها الخطاب السياسي, وهل هي حقيقية أم هامشية؟ وهل توجد بدائل أخرى؟
-ما هي حالة الواقع, وما هي أهداف المتكلم أو الكاتب؟ وهل ينسجم خطابه مع ما يعلنه من مبادئ؟
- هل المزاعم المطروحة في الخطاب السياسي نفسية أم مادية يمكن دعمها بالدليل؟
4 - أسئلة تتعلق بالخصائص اللغوية للغة الخطاب السياسي
- هل المصطلحات والتعابير اللغوية المستخدمة مفهومة ومباشرة، أم غامضة وغير مباشرة, وما هي، وما هو أصلها، ولماذا؟
- هل الجمل المستخدمة إعلانية، تأكيدية، توجيهية، أم أنّها في حالة النفي والمبني للمجهول، وما هو مضمونها ومعناها الحقيقي والبراغماتي في النص وسياق الكلام
- هل الجمل متجانسة مع بعضها بعضاً, وهل تقود إلى الهدف, وتؤدي الرسالة، ويتقبلها المتلقي؟
 أسئلة أخرى كثيرة يجب طرحها عند تحليل الخطاب السياسي بشكل عقلاني ومنطقي لا خيالي, لأنّ الخطاب السياسي يتعامل مع حالات وظروف مختلفة، وسياقات عديدة، ومشاركين وجماهير غير متجانسة التوجه والرأي, والأهم أنّه تحليل للغة رمزية أيديولوجية.
 وأخيراً لابد من القول إنّ السياسة والدبلوماسية ووسائل الإعلام مترابطة مع بعضها بعضاً. فالسياسة تطرح عدداً من الأهداف والقيم والأيديولوجيات؛ وتأتي الدبلوماسية لتعمل على تنفيذها. ومن ثم يأتي دور وسائل الأعلام إما لتسويقها إلى الجمهور بصدق وأمانة وأخلاق ومسؤولية، أو لتطلق سهامها فتصيب ضحيتها زوراً وبهتاناً, وما أكثر هذه الحالات في عصرنا الحالي. إنّ تحليل الخطاب السياسي الذي سأركز عليه مرتبط بتحليل لغة السياسة والدبلوماسية والقرارات الدولية ووسائل الإعلام.
 تلك هي مقدمة عن تحليل الخطاب السياسي, وسأحاول في الأعداد القادمة من مجلة الأزمنة أن أضرب أمثلة واقعية عن أحداث تجري في منطقتنا والعالم، وعن تصريحات سياسية يجري تداولها وتبادلها، وقرارات عن منظمات دولية يجري تبنيها حول تلك الأحداث. كما سأحاول تحليل بنيتها ومكوناتها اللغوية ومضمونها الثقافي والفكري والأيديولوجي من هذا المنظور لمفهوم تحليل الخطاب السياسي بين الوهم والخيال والواقعية.