جوهر الألم.. ورحم الغد.. بقلم: د. إسماعيل مروة

جوهر الألم.. ورحم الغد.. بقلم: د. إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٢ ديسمبر ٢٠١٤

ليس من رأى كمن سمع، السماح شيء آخر، شيء مؤلم لكنه لا يدخل جوهر الألم الممضّ، ثمة فرق بين أن تسمع عن القتل أو تراه، بين أن تسمع عن الخطف أو تراه، تسمع عن المتسول أو تراه، تسمع عن الفقر أو تراه!
أما الأكثر إيلاماً هو أن تشترك الحواس كلها في إيصال الألم إليك، وأن ترى وتسمع وتشم وتلمس، وذاك أمر آخر يدفعك إلى عمق الألم ليرتفع صوتك احتجاجاً ورفضاً وصراخاً وألماً..
ليس من فراغ قال شاعرنا نزار قباني:
من جرّب الكي لا ينسى مواجعه        ومن رأى السمّ لا يشقى كمن شربا
كم هو رائع وجميل شكل السمّ في كأس الشراب الشفاف؟!
ولكن هل يتمكن أحدنا أن يصفه فارغاً إن صبّه في جوفه؟!
إنّه الألم عندما تقع تحته، وعندما تصبح هدفاً له، وأنت لا حول لك ولا قوة!
لا تملك ما تدفع به الأذى عن نفسك
لست مقاتلاً، ولست مسلحاً، ولست مالكاً أو ملكاً..
لست شيئاً سوى مستقبل لكل كم الألم الذي يأتيك من الآخر.
هذا ينعتك وعليك أن تدافع عن نفسك ما نعتك به، وهذا يسفهك وعليك أن تدفع عن روحك صفة السفه..
وفي أحسن الأحوال يأتيك من يواسيك، يشد على يدك، يطلب منك أن تتحمل بالصبر، وأن تصفح وتنسى، وأن تفتح صفحة جديدة..!
إن كان الفقد قدراً فهناك إمكانية في النسيان
نسيان إجباري تفرضه الحياة علينا
نسيان ترغب به، خاصة إن كان المصاب متوقعاً مرغوباً به
ليس من رأى كمن سمع
قرأنا كثيراً عن الحرب العالمية، ونذكر أرقام الضحايا والقتلى، وتبقى مجرد أرقام، لكن ناغازاكي وهيروشيما تذكر الأرقام وتعدد الأسماء، وتقف ثكلى بأبنائها..
نتحدث عن القرون الوسطى
نقرأ بتباه أن العصر الحديث كان بعد حروب كبيرة..
بدأ العصر على أشلاء الأبرياء، وما قيمة أن يبدأ؟!
هالني ما قرأت عن مجازر الأرمن في بداية القرن العشرين
سمعت الكثير، وقرأت عن ضرورة تجاوز الأرمن لهذه المرحلة، وكنت أسأل نفسي، ما معنى الاعتراف بالإبادة؟
ومع الجهود الحثيثة لنشر وثائق المجازر قرأت ولمست ما لم يكن من الممكن أن ألمسه وأراه..
وثائق مذهلة، مفزعة من كل جانب، لا قيمة لأي شيء أمام الوثيقة..
الوثيقة لم يكتبها أرمني، فالأرمني كان مشغولاً بنفسه وجمع أشلاء الجسد والروح.. الأرمني كان يبحث عما يمكن أن يبقي أنفاسه على تواصل مع هواء نقي غير مشوب بروائح الدمار والدم والاغتصاب والقتل..
تبنت دار الشرق مشروع وثائق الأرمن، وأظهرت ما لم يكن من الممكن أن يظهر، والسوري كان طرفاً ليس في التبني والنشر فقط، ولو كان الأمر كذلك لهان الأمر، ولم يكن مهماً بهذه الدرجة! لكن السوري الذي حمل الحضارة، وليس السوري الذي نراه اليوم هو من رأى ووثق وكتب وتعاطف وأدان..
كتب عن الترحيل
دوّن القتل
سجل القتل والاغتصاب
كلنا مدينون لنبل ذلك السوري الذي انحاز إلى الإنسانية، ولم ينحز إلى مذهب أو طائفة أو شريعة، كلنا مدينون بالرقي لذاك الذي أجار الأرمن وأدخلهم مكانه وأعطاهم الأمان، كلنا مدينون لذاك الذي جعل لفظ العروبة محبوباً وقريباً من الأرمن، كلنا مدينون لذاك الذي كان مظلوماً مهضوماً في حقوق، فشعر بمن أحاق به الظلم، فأنصفه ووقف معه، في الوقت الذي ناله ظلم كبير من مظلوم آخر..!
المظلوم ظالم يا حسرة على العباد
المقتول قاتل
والرائي قوة لا تعرف الرحمة
اقتل أخاك وأنا أرقب وأعطيك ما تشاء..
انتصبت الأرمنية على قدميها، استخرجت من رحمها حباً لا ينتهي، ونظرت إلى الكون مبتسمة، هزت غرتها وهي تردد، لن أنسى.. رحل الظالمون ولكن الظلم أبداً لن يرحل..
انتصبت لتقف مع السوري وتبني الغد الذي رآه قبل قرن، فكيف يكون الغد؟