دلالات نفي الهوية.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

دلالات نفي الهوية.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٦ نوفمبر ٢٠١٤

من المهم التنبيه إلى الخطر، وليس ممارسة استعراض القوة كما هو شأن بعض الباحثين في عالمنا الإسلامي الذين اهتموا في القضايا التي يطرقونها بالتأسيس والتأصيل المنهجيين أكثر من اهتمامهم بأزمة الواقع ونظرية الحل؛ فإنّ الذي حصل في غفلة منا وعلى غرة من سذاجة وسطحية في تقدير الأحداث المتحركة حولنا قبل أكثر من قرنين أننا تعاملنا مع الجبهات التاريخية والحديثة المقابلة لثقافة الأمة العربية والإسلامية بغلبة حسن الظن أو بقصر نظر – ولا نزال- كما هو شأننا بعضنا مع بعض، ولم نخرج في مصطلح القوة والعدوان عن مفاهيم المواجهة المباشرة التقليدية لنصحو من ثم متأخرين فنكتشف أنّ الحرب التي تشنها القوى العدوانية الأخرى على أمتنا الإسلامية في هذا التاريخ المتأخر والحديث قد اختلفت في برامجها ومشاريعها ووسائلها عن آلياتها إلى ما هو أخطر في خبثه ونفاقه وتحقيق غاياته، وإلى ما هو أبلغ في حصائده بل استحصدت تلك الحرب العدوانية من أبناء هويتنا ومن حاملي كرامتنا عملاء لها أكثر هماً وعزماً من أعدائها الذين صنعوا معها حرباً تشن قوة سياسية واقتصادية على ديننا وعلى إيماننا القرآني الحكيم وعلى جميع المبادئ الثقافية في شعوب هذه الأمة لتنفيذ أهدافهم الخاصة والتحكم بمصير شعوبها، وأنّهم يفرضون بالقوة عقائد جديدة على دولها وعلى شعوبها من أجل ترسيخها بدلاً من ثقافتها ومعتقداتها بغياً عليها وحسداً مُراً لاجتثاث أصولها في مكونات روابط صفة الأمة لتهتز وتتخلخل ثم لتتوزع دولاً فيسهل القضاء عليها، وبدا بوضوح المظهر الملّح لهذه الحملة العدوانية في التركيز على الجانب الدنيوي المفرط في المعاش، وجرّ المجتمع للروح الاستهلاكية، وتحريك الشهوات وإثارتها على صعيد الأخلاق الفردية، أما في الجانب السياسي فقد جاء التركيز على كل إعلام يحقن العقول والنفوس بعجز نظام الأمة ودولها عن إدارة شؤونها ومتطلبات الحياة المتطورة القادمة ومستحدثاتها، وعدم كفاية الأحكام والقيم الإسلامية في إدارة المجتمع، وكانت الذرائع الحاملة لكل ذلك أنّ العلوم الاجتماعية والمتطورة هي البدائل الجليّة، وهي نفسها في الحقيقة الغاية المستخدمة لتحقيق أهداف هذا الجانب من الغزو، والملاحظ في حركية كل ذلك مسألة أكثر عمقاً وجذرية من هذه البرامج والأفكار الغازية وهو أن يسلبوا شبابنا ويقطعوهم عن تلك الجذور، وقد ساعدهم في مآربهم مع الأسف خُطبنا وطروحاتنا المتلونة بالغيرة على مبادئ الأمة وعلى شرف دينها عبر نظرات تتسم بالكثير من السطحية من غير حنكة ولا خبرة ولا تعمق في الفهم والإعداد، حتى طغت على تلك الدعوات الدينية إلا قليلاً- لا يكفي- الوعظيات وصور تصنع التجليات والصوفيات من غير اعتداد بنصوص العلم والتعقل وبالحذر والعمل الجاد، ومن المخزي الذي يلاحظه كل بصير ما قد جرى وما يجري اليوم بتزاحم وتنافس وتشديد على محاصرة فئة الشباب والنساء بأدق الوسائل والأجهزة المتدفقة لإثارة الشهوات وبوضع الأفلام الجنسية وجميع مؤكدات الإباحية في متناول الأيدي حتى فعلت ما هو أشد تأثيراً من المسكرات والمخدرات فيهم لتتلوها أمثلة هذه المخدرات والمسكرات بموجات دعائية للطاقة والحيوية والنشاط والأغذية أو الأشربة المثالية أو ما يُدس بمقبلات ومأكولات للأطفال وللشباب بأبرع وسائل الدعايات وصورها وكذلك بألوان الموضة وأشكال الألبسة والإكسسوارات وما يكتب عليها من حروف ورموز وصور، ثم ما يُصخب الآذان من أنغام وموسيقا ومطربين وفيديو كليبات حتى بات كل ذلك جزءاً رئيساً من حياة شعوب الأمة وشبابها ومعلقاً على آذانها ليل نهار بسماعات أجهزة الاتصال المبذولة المنهمرة في الأسواق والمحلات، ولو كلف ذلك أن يؤثر الشخص على كتابه وطعامه ومعاشه وضروراته بإنفاق الآلاف الكثيرة ليواكب كل ما صدر منها حديثاً وتطور، وقد يكون في كل ما سبق- وقد حصل فعلاً بوضوح- مجاراة ومتابعة لدعوة عبادة الشيطان (الإيمو)، وأن تدعو الفتاة زميلتها الملتزمة والفتى أيضاً لتجريب ذلك ثم للتفاعل معه حتى انقلب كلاهما إلى عناوين لها وإلى رفض وإصرار على طرح أي حجاب أو حياء وعلى تحدي الأهل المتأصلين بهما وإلى العناد في تجرّع مفهوم الحرية الشخصية وتجربة الحب بحسب ما تفهمه الفتاة خصوصاً من غير أن تسمح لأحد أو لأهلها أن يضعوا لها الضوابط والأدبيات أو أن يصححوا هذه المغالطة- إن كان هناك أهل أو مصححون!!- وبات كل شيء نسبياً في الإعلام العام والمسلسلات الفضائية الأخرى يجر إلى عدة مجالس لهو وفجور و.... عدا عن نشر الملايين من المجلات والكتب الأدبية والثقافية التي تعد مصداقاً تاماً وبارزاً من مصاديق كتب الضلال، وانتشار الحلويات المغلفة بصور مبتذلة بين الأطفال والشباب الغافل عما يراد به، وشيوع الملصقات التي تحمل صوراً مبتذلة لأبطال السينما التجارية التركية والهندية والأميركية، وطبع العلامات (تجارية أو ملصقات على الملابس والسيارات كما سبق ذكره) التي تحمل دلالات نفي الهوية، وتصميم الأشكال التي ترمز إلى ثقافة الأجنبي، وتحوّل ملابس الأطفال والشباب إلى لوحة إعلان سيارة، هي جميعها أمثلة بارزة للهجوم الثقافي الذي يهدف إلى قطع الشباب- ذكراً وأنثى- عن هويته المعنوية الدينية والإسلامية والوطنية، وإلى إفقاده عنصر الثقة بنفسه والاعتماد على أصوله ومبادئه الأساسية في وجوده الدنيوي والآخروي وفي هويته من كل ذلك، ثم إلى ربطه ببهارج دنيا الغرب الملونة حتى يتحول هذا الغرب إلى قبلة آمال ينزع إليها ويصبو لها، ومن الطبيعي أنّ هذا الجيش المهاجم بتلك اللغة إذا نجح في حملته – كما هو منكشف اليوم- فسوف لن يحتاج حتى إلى إطلاق رصاصة واحدة!
(للحديث بقية)