من كييف إلى دمشق... روسيا تنتصر...

من كييف إلى دمشق... روسيا تنتصر...

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٤ نوفمبر ٢٠١٤

يزداد تكتل الغرب يوماً بعد يوم ضد روسيا الاتحادية نتيجة مواقفها الثابتة والمناهضة لسياساته في العديد من القضايا الدولية الحساسة، ولا يوفر الغرب مناسبة إلا ويظهر فيها عداءه وحنقه من الموقف الروسي الذي أصبح العقدة في منشاره الذي اعتاد فصم عرا الدول الآمنة والمستقرة وشرذمتها.‏

وفي هذا السياق، فقد رفض وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مطالب الغرب بهدف رفع العقوبات، مشدداً على أن موسكو لن تتوسل إلى الغرب من أجل رفع العقوبات المفروضة عليه.

وقال عقب اجتماع الهيئتين القياديتين لوزارتي الخارجية الروسية والبيلاروسية في مينسك: بحثنا علاقات روسيا وبيلاروس مع الاتحاد الأوروبي وأكدنا أن العقوبات والمواجهة ليسا خيارنا، ونحن لا نسعى إلى المواجهة، مضيفاً: العقوبات هي طريق مسدود ومضرة من ناحية تحقيق نتائج تهدف إليها العقوبات أحادية الجانب.

وأشار إلى أنه لحسن الحظ هناك أصوات أوروبية تدعو إلى السلام وحتى إلى استخلاص دروس من الأخطاء التي ارتكبها الاتحاد الأوروبي، معرباً عن أمله في عدم تجاوز روسيا والاتحاد الأوروبي نقطة اللاعودة في علاقاتهما، مؤكداً أن موسكو كانت ومازالت تعتبر الاتحاد الأوروبي شريكاً اقتصادياً كبيراً ومهماً.

وأضاف: الأزمة الأوكرانية اندلعت بسبب انقلاب مسلح، وأن البلاد أصبحت نتيجة ذلك على حافة التفكك وانزلقت إلى حرب أهلية، مجدداً دعوته إلى إقامة حوار أوكراني شامل بمشاركة كل المناطق وتنفيذ اتفاقات مينسك, مشيراً إلى أن كييف اتجهت إلى خنق جنوب شرق أوكرانيا وتهدد باستئناف استخدام القوة بدلاً من إقامة اتصالات مع أولئك الذين رفضوا الانقلاب المسلح.

من المؤكد أنّ الغرب يدرك جيداً، أنّ هناك خطاً أحمر روسياً، لا تمتلك روسيا ترف التساهل معه أو التلكؤ في مواجهته بكل ما تملك، ذلك لمصيريته بالنسبة لأمنها ومصالحها ونظرتها لموقعها ودورها الكوني، وصولا إلى ما تطمح وتسعى إليه من ضرورة الوصول بالعالم إلى نظام دولي متعدد القطبيات، وهو العبث بكيانات حديقتهم الخلفية تاريخياً عبر ضم دول من دول ما تعرف بـالرابطة المستقلة للناتو...
 
ويدرك الروس أن الهدف الأساس للغرب، أو بالأحرى الولايات المتحدة، هو استنزافهم وإضعافهم بغية منع تعدد القطبية التي يسعون هم ودول البريكس للوصول بالعالم إليها، وليس نصرة لأوكرانيا ولا من أجل سواد عينيها.

وبالتالي، فموجات العقوبات الاقتصادية المتتالية التي أعلنتها الولايات المتحدة وأوروبا ضد روسيا تعبر عن سياسة هادفة للغرب لكبح النمو المطرد للاقتصاد الروسي، وبالتالي إضعافه من خلال إطلاق سباق تسلح جديد.

ـ تعتقد الدوائر الغربية بعدم قدرة الاقتصاد الروسي على مواكبته وتمويله ما سيؤدي إلى اضطرابات اجتماعية قد تمهد الطريق لإخضاع روسيا مما سيعيدها إلى دولة تلعب في أحسن الأحوال دوراً شبيهاً للدور الفرنسي على مسرح السياسة الدولية. وهنا تنجح أميركا كنتيجة لذلك بمصادرة القرن الواحد والعشرين وإعلانه قرناً أميركياً ـ وللأمانة التاريخية فقد نجح هذا الخيار في محاربة الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة ما أدى إلى انهياره في عام 1991.

من هنا كان تأكيد الرئيس فلاديمير بوتين في تصريحاته أمام الإعلام، أن الإجراءات المضادة التي تتخذها روسيا من فرض عقوبات على الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي كمنع السلع الغذائية والزراعية الغربية من دخول السوق الروسية ومنع كبار الشخصيات السياسية في أميركا من دخول روسيا الاتحادية، وما يمكن أن يعلن لاحقاً من عقوبات جديدة بحق الدول الغربية، ليست هدفاً بحد ذاته وإنما مناسبة وفرتها السياسة الغربية لمصلحة الصناعات الروسية كي تحقق قفزات إنتاجية جديدة ستكون دون شك مثمرة على المدى المتوسط والبعيد.

كما أن الإجراءات العسكرية التي اتخذتها القيادة الروسية وتسريع تحديث الجيش ما هي إلا خطوات جوابية لإجهاض تحركات حلف الناتو من نشر قوات في شرق أوروبا ونشر الدرع الصاروخية الأميركية حفاظاً على الأمن القومي الروسي واستقلالية القرار السياسي للقيادة الروسية ـ هذه الاستقلالية التي أصبحت الوحيدة والفريدة في نادي الدول الكبرى في عالم اليوم.

وبديهي أنّ دول الاتحاد الأوروبي جميعاً، لا تملك إلا مساحة محدودة من الاستقلالية في سياستها وهي في وضع المنفعل بالأحداث وبعيدة عن أن تكون فاعلة، حيث تنتظر ما يقرره البيت الأبيض وما يكلفها به من وراء المحيط، كذلك حال كندا وأستراليا وهذا ما أشار إليه الرئيس بوتين مراراً عندما أعلن أنه من الأفضل لروسيا التحدث حول أوروبا مع السيد الأميركي.

من جانب آخر أكدت الدوائر الاقتصادية الأوروبية أن المتضرر الأكبر من العقوبات الاقتصادية على موسكو، هي دول الاتحاد الأوروبي ذاتها التي ما تزال تعاني أزمة اقتصادية خانقة، يمكن أن تؤدي إلى تفتيت هذا الاتحاد، الذي يجمع أكثر المراقبين والمحللين الاقتصاديين على أن ألمانيا هي الحامل الرئيسي له باقتصادها القوي الذي استطاع أن ينقذ عدة دول أوروبية من الانهيار المالي.
فقد أكدت التصريحات الصادرة عن الدول الأوروبية أن هناك تمايزاً في المواقف بين هذه الدول، فألمانيا الحامل الأساسي للاقتصاد الأوروبي، تحاول دائماً الإبقاء على العلاقة مع روسيا، وتظهر تفهّماً للسياسة الروسية الحالية، وباتت تتوجس من نيّة واشنطن المبيتة لألمانيا أولاً وللاتحاد الأوروبي ثانياً، وهي تعلم أن اللعب الأمريكي على وتر القوميات في أوكرانيا لن يتوقف عند هذه الدولة، بل سيتعدّاها إلى سائر الدول الأوروبية المتعدّدة الأعراق والقوميات، وبالتالي الشرخ الذي عملت أمريكا على تعميقه بين روسيا وأوكرانيا على أساس قومي يمكن أن ينسحب على سائر أوروبا...
فيسعى بالتالي كل عرق في أوروبا إلى الانفصال عن الدولة التي يعيش فيها على أساس قومي أو عرقي، ما يمكن أن يؤسس لانفصال أقاليم متعددة في الدول الأوروبية عن الدول التي تنتمي إليها، مثل البندقية في إيطاليا والباسك في إسبانيا، وألمانيا ذاتها يمكن أن تتحول إلى أربع دويلات أو أكثر، وهذا الأمر طبعاً يعتبر من المحرّمات بالنسبة للأوروبيين الذين عاشوا أحداث حربين عالميتين على أساس قومي.
إن من أهم ما يتكشف عنه مشهد الصراع الدائر على الساحة الأوكرانية، والذي لا يمكن عزله بحال عن سواه مما يديرها الأمريكان من صراعات في الساحات الكونية الأخرى، هو أن أوروبا شبه المفلسة، والتي لا تحتمل زيادات في ميزانياتها العسكرية، ومهما حثتها لوثة جموحها الأطلسي، أو أجبرها الأمريكان على إطلاق النار على أقدامها، فإنه من المشكوك فيه دفعها لشراء أسلحتهم اتقاء لفزَّاعة الخطر الروسي، كما ليس من السهل جرها لخوض حروب في أماكن أخرى إن هي إرادتها لا تقوى على خوضها.

من هنا أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أكثر من مرة، أنها تتفهم الموقف الروسي الساعي إلى الحوار بين أطياف الشعب الأوكراني، وحل المشكلة الأوكرانية بالطرق السلمية، وقد أعلنت ألمانيا في أكثر من مناسبة أنه لا يمكن الاستغناء عن الدور الروسي في حل المشكلات الدولية، في إشارة إلى رفض ألمانيا الموافقة على المطالبة الأمريكية بعزل روسيا، وذلك لأنها تعلم أن اللعب على وتر القوميات في أوروبا يمكن أن يقود إلى حرب عالمية ثالثة على أساس قومي، ربما يكون مسرحها أيضاً أوروبا، وأمريكا التي تحرّكها تقبع خلف المحيط.

إلى ذلك فانكفاء الغرب الأخير في أوكرانيا وتحويله باتجاه العراق وسورية مجدداً، يعود إلى إخفاقه في توظيف الأزمة الأوكرانية من أجل إحداث اختراق مؤثر باتجاه روسيا، وما تقوم به واشنطن في العراق هدفه منع إيران وسورية من ربط العراق بالتحالف معهما ومع الحلف الدولي الروسي الصيني المستهدف عالمياً...

بالتداعي نرى أن روسيا اليوم تدفع ثمن فاتورة تدخلها في القضية السورية وامتناعها عن التصويت في مجلس الأمن قبيل التدخل في ليبيا ومواقف كثيرة مناقضة لمشيئة الولايات المتحدة، منها الملف الإيراني، والتنامي المتسارع للعلاقات الاقتصادية والإستراتيجية مع الصين الشعبية.

وقد كان للموقف الروسي من الأزمة السورية، وللصمود السوري في الأزمة/الحرب، ولقدرة الجيش العربي السوري على التصدي للمسلحين والإرهابيين وحلفائهم الكثر، ولثبات الدولة واستمراريتها في الأداء على الرغم من حجم التحالف ضدها... دور أساسي، ليس في الإرهاص بظهور القطبية السياسية الدولية الثانية متجلية في الاتحاد الروسي إلى العلن، بل وبالدفع الفعلي باتجاه الإعلان العملي المقتدر عن ذلك الظهور بقوة وعزم على المواجهة والثبات وانتزاع الموقع والاعتراف بالدور والمكانة.

قد تكون دمشق هي المحطة المفصلية التي ستحسم هذا الصراع الكبير الذي يمتد من كييف إلى دمشق، والذي على أساسه سيتحدد توازن العلاقات الدولية، والنظام الإقليمي الجديد، وخريطة المنطقة لعقود قادمة، ولأن دور روسيا أساسي ـ ومهم لحماية أمنها القومي من جحافل القتلة ـ والمجرمين الذين ما إن ينتهي دورهم في سورية، حتى يبدأ تصديرهم إلى مناطق القوقاز من أجل إطلاق (خلافة إسلامية) مزعومة جديدة تحت شعارات بديلة، ومظالم مفبركة، وإعلام مواكب، ولأن الرئيس بوتين يقرأ هذه المعادلات بعناية، وفهم كبيرين ويدرك أن المستهدف هو موسكو كما هي دمشق، فإنه سيبقى مكروهاً من الغرب ـ مادام أنه يدافع عن كرامة بلده، ومصالحه كما هو الأمر بالنسبة للرئيس الأسد.

وانطلاقاً من هذا الواقع سيكون من الغريب أن لا نقف مع روسيا في مواجهتها الجديدة مع الغرب بما ينسجم وقيمنا الأصيلة، ومصالحنا القومية والوطنية، فقوة روسيا اليوم تعني إثراء لقوتنا ومواقفنا من أجل إقامة دول متحررة ومستقلة ومتطورة، في عالم متعدد الأطراف، إننا بحاجة لحليف قوي للمضي بهذا الطريق وإنّ روسيا يمكن أن تكون حلفينا في تحقيقه.

وفي تقديري أن روسيا الاتحادية التي تحتل الآن مع حلفائها الحاليين والمحتملين موقع القطب الدولي المكافئ للقطب الغربي لن تفرط بالمبادئ والثوابت الدولية التي أعلنتها، ولا بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة التي قررت أن تراعي أحكامهما وتفرض احترامهما، ولا بالدول التي تتحالف معها أو ترى فيها نصيراً، ولا بما تراه أخلاقيات في السياسة يجب أن يكون لها حضور ولو نسبي، لكي يبقى هناك قانون دولي وقانون إنساني دولي ومنظمات دولية، وشعوب ودول تتمتع بالأمن وتتطلع إلى السلام عبر المنظمة الدولية والهيئات المنبثقة عنها والقوى الحاملة والحامية لتلك المرجعيات القانونية والأخلاقية والإنسانية...

وآمل أن أكون على حق فيما أذهب إليه من رأي ورؤية، فتلك من مسؤوليات القطب الدولي المكافئ وواجباته.

* المنسق العام لرابطة الصحافة القومية في المغرب العربي