داعش بـ«لوك جديد».. ضرورة أميركية

داعش بـ«لوك جديد».. ضرورة أميركية

تحليل وآراء

الخميس، ١٨ سبتمبر ٢٠١٤

 في مكانٍ ما تتشابه وكالة المخابرات المركزية الأميركية مع هوليوود صانعة الأفلام الشهيرة، إلّا أنها هذه المرّة بصدد صناعة أحد أسوأ أفلامها عبر تاريخها الشهير بفبركة وتصنيع المسارات والأحداث، وأقصد بذلك مسرحية محاربة داعش والقضاء عليها وهو ما يتناقض مع حاجة أميركا الملحّة لداعش وأمثالها.
وأحد أهم الأسئلة المطروحة، كيف يمكن أن تكون أميركا مصنّعة داعش وتسعى حالياً لمحاربتها والقضاء عليها؟
إنّ نظرية المؤامرة التي بات الكثيرون يخجلون من الكلام حولها بحكم النقد الشديد لها، وتغليب نظرية الأسباب الكامنة في الأنظمة والشعوب كمسبّبٍ أساسي من مسبّبات نشوء التطرف والتي تحمل جوانب كثيرة من الدقّة، لا تُلغي أنّه ومنذ العام 1957 تسعى أميركا بعد تولّيها قيادة العالم الغربي على وضع الخطط المتلاحقة لخلق حالة من التهشيم المتزايد في الكيانات التي أوجدها إتفاق سايكس – بيكو، والذي تتغير أشكال أدواته في كل مرحلة بحسب التطورات.
ورغم قناعتي أنّ المسارات التي سلكتها الأنظمة في مجالات التنمية وبناء الإنسان لم تكن بالمستوى الذي يحقّق العدالة الإجتماعية بالمستوى المطلوب، إلاّ أنّ التخطيط المعادي باستغلال هذه الأسباب وأسباب أخرى تاريخية ودينية لا يمنع أن التدّخل المستمر والمتنامي من أميركا والغرب لم يتوقف يوماً في منطقتنا، أمّا لماذا بدأت أميركا تتدخّل منذ العام 1957، فلسببٍ واضح وهو أنّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إستطاع أن يحبط مفاعيل الإعتداء الثلاثي على مصر، ممّا حدا بأميركا أن تبدأ بالتخطيط لتقسيم ما قسّمه سايكس – بيكو لتأمين نطاق حماية أفضل لربيبتها "إسرائيل" من خلال تمزيق الكيانات الى دويلات على أساس مذهبي وقومي وإبقائها في حالة تناحر، ما يؤمّن لأميركا السيطرة على مقدرات وخيرات المنطقة وتأمين أسباب استمرار الكيان الصهيوني.
"داعش" الحاليّة أدّت الدور المرسوم لها كما يجب، ففي العراق إستطاعت داعش أن تعيد خلط أوراق اللعبة العراقية الداخلية وأن تعود بأميركا كقائد لتحالف دولي كبير عائد بقوّة للإمساك بالعراق والضغط على إيران من خلال خلق عازلٍ جغرافي بينها وبين الجغرافية العراقية والسورية، إضافةً الى عودة الدور السعودي في العراق والذي وصل الى حد القطيعة زمن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
وفي سورية يبدو من خلال السيناريو الأميركي أنّ "داعش" ستتحوّل من وحشٍ هائج الى قوّة معتدلة ستحظى برعاية أميركا والتحالف، وستزود بما يلزم من عتاد وسلاح لتحقيق هزيمة في النظام السوري لم تتحقّق حتى الآن.
قد يرتبك قارئ هذه السطور قليلاً، إلّا أنّ الارتباك سيزول سريعاً عندما يعرف المسار الذي سلكته الأمور منذ إحتلال العراق سنة 2003 وحتى هذه اللحظة.
فبعد الإحتلال الأميركي للعراق نشأت مجموعة "القاعدة في بلاد الرافدين" التي قادها في آخر مراحلها أبو مصعب الزرقاوي الذي قتلته أميركا بعملية خاصّة.
وفي متابعة لأبو بكر البغدادي ومهامه، تشير المعلومات أنّ أغلب قيادات ومراكز "القاعدة في بلاد الرافدين" قد تمّ إنهاؤها بعد تواجده في نطاقها، الأمر الذي يثير أكثر من علامة إستفهام، إلاّ أنّه صار واضحاً الآن حول حقيقة ارتباط البغدادي بمهمّة إستخباراتية أميركية تستهدف إعادة صياغة المنطقة بشكلٍ يتناسب مع طبيعة ونتائج الميدان، الذي لم يتشكّل بحسب الرغبة الأميركية حتى اللحظة.
البغدادي الذي قام تنظيمه "دولة العراق الإسلامية" بمهام في سورية بالتنسيق أولاً مع التنظيمات الأخرى، أعلن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" بعد صراعاتٍ مسلحة دامية مع جبهة النصرة وتنظيمات أخرى، إستطاع أن يسيطر على مساحات واسعة في المنطقة الشرقية في سورية على حساب التنظيمات الأخرى، ويعلن "الدولة الإسلامية"، وفي العراق الذي إجتاحت قواته شماله بشكلٍ أدّى الى سيطرته على مساحات شاسعة من الأراضي وبسط سيطرته على الموصل ثاني أكبر مدينة عراقية ومدن أخرى، هذا التنظيم الذي نفّذ أبشع المجازر وعمليات القتل والذبح والسبي والتهجير بحق كل الطوائف والمكوّنات العراقية دون إستثناء، كان من ضمن سيناريو مقرّر مسبقاً ليأتي مصنّع هذا الوحش الى المنطقة ولكن هذه المرّة بدور المنقذ.
ولا يجب أن يغيب عن بالنا أنّ عمر تنظيم "داعش" هو بحدود السنة وجاء بعد إنهيارات كبيرة للجماعات المسلحة في سورية، وبعد تغيرات ميدانية لصالح الجيش العربي السوري يعرف الأميركي قبل غيره أنّ الجيش السوري حقّق نصره الاستراتيجي وقارب على إنهاء المعارك الكبرى.
وعليه كان لا بدّ من تطوير لمسار الخطّة الأميركية يعيد صياغة الجماعات المسلحة "المعتدلة" التي ستتولى الإجهاز على إنجازات الجيش السوري الميدانية.
وليس غريباً أن نسوق هذا الكلام في ظل ضبابية المواقف الأميركية المعلنة وغير المنسجمة لا في بنودها ولا في سياقها الذي يخالف الحد الأدنى من الموضوعية في مقاربة الموضوع.
فاستبعاد روسيا وإيران وكذلك سورية عن التحالف الهادف لضرب "داعش" وانهائها يتعارض مع منطق الأمور، كون سورية هي المحارب الفعلي للإرهاب منذ حوالي أربع سنوات بينما كانت أميركا ومن يدور في فلكها تدعم هذا الإرهاب.
ولا يبدو أنّ حسابات البيدر الأميركي ستتطابق مع حسابات الحقل، فإيران لا تزال قوية في الإمساك بالكثير من جوانب القوة في العراق وغير صحيح ما يروجه البعض عن خسارتها لأوراقها في الملف العراقي، والدليل أنّ القوى التي تطوعت لقتال "داعش" في أغلبها محسوبة على المرجعية الدينية العراقية التي تنسق مع إيران ولا تزال ترتبط بها بعلاقة أكثر من ممتازة، وهذا يعني أنّ إيران قادرة في العراق على قلب الطاولة في أية لحظة تستشعر خطراً عملياً يستهدفها سواء في المفاوضات حول الملف النووي أو ما يمسّ مصالحها الإقليمية، وقد بدا الأمر واضحاً على لسان كل المسؤولين الإيرانيين، بدءًا من مرشد الثورة الإسلامية مروراً بكبار القادة السياسيين والعسكريين وصولاً الى العديد من المسؤولين والمرجعيات العراقية التي اجمعت على قدرة العراق جيشاً وشعباً بمواجهة الإرهاب ودحره.
سورية التي أبدت خشيتها من ضرب وحدات الجيش بحجّة محاربة داعش بدأت القيام بإجراءات مضادّة لحصر المعركة ضد "داعش" في العراق من خلال ما تشهده الحسكة ومحيطها من معارك، استطاع الجيش ووحدات حماية الشعب الكردية من استعادة عشرات القرى، والذي على ما يبدو يصب في خانة إغلاق الحدود مع العراق لعدم السماح لقوات داعش المهزومة في العراق الإنسحاب باتجاه الداخل السوري، الاّ أنّ هذا الأمر لا يبدو كافياً ويجب التحضر جيداً لمواجهة حقيقية لداعش بـ"اللوك الجديد"، من خلال تحويل داعش الى قوة معتدلة تتفق مع المعايير الأميركية في دعم الجماعات المسلحة بمواجهة الجيش العربي السوري.
وتشير الكثير من المعلومات القادمة من الرقّة الى بدء "داعش" بسلسلة إجراءات تهدف الى التخفي والتمويه والتضليل لتأمين إنتقال سلس من "داعش" متوحشة الى جماعة لا نعرف حتى الآن ماذا ستتخّذ اسماً لها.
ويبقى أنّ الكثير من التسريبات تشير الى جهوزية روسيا وإيران والصين ودول البريكس للدخول في حلف لمواجهة تداعيات المرحلة القادمة والتي ستكون مفتوحة على كل الإحتمالات، فلا روسيا والصين ستسمحان بتمرير قرارات تنفيذية لا تراعي حق سورية في التنسيق معها بشأن أية ضربات على أراضيها لإعتبارات هي نفسها التي شكّلت أساس الموقفين الروسي والصيني، ولا إيران ستكون متراخية بشأن استهداف سورية تحت أية ذريعة أو حجّة، ما يؤكد انّنا سندخل في مرحلة صراعية تشوبها الكثير من مشاهد شد الحبال.
وبالرجوع الى طبيعة السياسات الأميركية ومساراتها نرى تكراراً لمشهد خلط الأوراق وتغيير قوانين اللعبة كلما أصبح مشروع أميركي في المأزق، وكلما أصبح العراك على حافّة الهاوية، فأميركا التي تدير المعركة على سورية منذ أربع سنوات تدركُ أنّ موازين القوى لم تعد في مصلحتها، لهذا كان لا بدّ من مبرّر لعودتها الى المنطقة بذريعة تستدعي العودة ولكن هذه المرّة بدور مخلص المنطقة من عذاباتها، وبما أنّ أميركا ليست جمعية خيرية ولكل شيء ثمنه فهي بالتأكيد عائدة الى المنطقة وعينها على تحقيق إختراق في مفاوضات الملف النووي الإيراني، وإجبار الرئيس الأسد على تقديم تنازلات جدية لإيجاد تسوية تضمن لها العبور الى الملف السوري من بوابة انتصارات ميدانية تحقّقها "المعارضة المعتدلة" المدعومة أميركيًا.
إلّا أنّ المشهد الحالي هو مشهد اللعب تحت الطاولة "under the table"، وما لم تحسب له أميركا حساباً هو أنّ بمقدور روسيا وإيران والصين وبالتأكيد سورية قلب الطاولة وأخذ الصراع الى حيث لا ترغب أميركا وحلفاؤها.
ختاماً، الترقب هو سيد الموقف، إلا أنّ النوايا صارت واضحة والجميع يرتب أوراقه للدخول في المرحلة الجديدة التي لن تكون لمصلحة أميركا لمجموعةٍ من الأسباب ترتبط بطبيعة ميزان القوى، وأكثر ما يمكن أن تحقّقه أميركا من خلال هذا التحالف هو القضاء على وحشها، أميركا التي لا تدرك على ما يبدو أنّ رئيسها أوباما هو نفسه القائل بعدم إمكانية تحقيق نصرٍ على الجيش السوري بحفنة من أطباء الأسنان والمزارعين.