البنية الحضارية في المشرق العربي القديم.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

البنية الحضارية في المشرق العربي القديم.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٥ يوليو ٢٠١٤

يمكن تفسير بدايات الحضارات في الفرض القائل:
"إن الأحوال الصعبة هي التي تولّد الأعمال المجيدة". كما أن الهزيمة الفجائية كفيلة باستثارة الجانب المهزوم لترتيب نظام داره، الاستعداد لتحقيق إجابة منتصرة.
 ويبدي استقراء التاريخ أن الشعوب التي تتعرض لعدوان متصل، تُظهر استطالةً أشدّ إشراقاً، وتستجيب لتحدي الحرمان بإبراز طاقة استثنائية، وإظهار أهليّة غير عادية في الاتجاهات المفتوحة أمامها، مثلها في ذلك مَثَلُ الكفيف الذي تقوى لديه حاسة السمع قوّة خارقة.
 والحرب هي السبب الرئيسي لانهيار الحضارات والمجتمعات... إلا أن مصير المعتدي الفناء، حسبما يراه المؤرخ البريطاني الشهير الأستاذ أرنولد توينبي. وأبرز مثالٍ يطالعنا بهذا الصدد هو زوال دولة آشور بفعل مغالاتها في العدوان، ثم اندثار ما خلّفته (اسبرطة) من آراء لقيامها على الحروب والاستعداد لها.
 وإذا كان الأستاذ توينبي قد قسّم المجتمعات إلى واحدٍ وعشرين مجتمعاً، اندرس معظمها ولم يبق منها سوى خمسة، هي: "المسيحية الغربية، والمسيحية الأرثوزوكسية، والاسلامي والهندي، والشرق الأقصى تضاف إليها مخلفات المجتمعات المتحجّرة غير المعينة الشخصية كاليهود مثلاً، فأنه ينأى عن فكرة أن صفات خاصة في الجنس هي التي تقود إلى تفوّق أمة بعينها. وسنجده يسخر من القائلين بتفوّق الجنس الأبيض من الناحية الحضارية.
 وفي مؤلّفه "دراسة للتاريخ" رأى توينبي أن الأجناس جميعها - عدا القليل منها - قد ساهمت في انبعاث الحضارات إلى الوجود، واشتركت في تقدم البشرية في شتى مناحي العرفان.
 بيد أن الباحث العربي الأستاذ يوسف الحوراني يعيِّن هذه الحضارة بما يسميه بـ "الشرق المتوسطي الآسيوي القديم"، فيرى أن شعوباً عدةً تأثرت بحضارة هذا الشرق؛ كالعيلاميين، والحوريين، والحثيين، والكاشيين، إلا أن هذه الشعوب توقفت، وتوقف معها فِعل تراثها، بينما بقي هذا الشرق وحده أهلاً لادّعاء وراثة التراث الذهني لتلك الحضارة الكبرى.. ولا يزال هذا التراث - حسب الأستاذ الحوراني – حيّاً فاعلاً في اللغة والتقاليد والعقائد الشعبية!.
أديبنا الكبير الطبيب عبد السلام العجيلي يخبرنا عن حجر منحوت من البازلت الأسود، آه أوّل رؤية في متحف بغداد في ربيع العام 1953 ففُتِن به عند وقوع نظره على الشكل الهندسي المنقوش على وجهه، وقرأ ترجمة الحروف (الرموز) المسمارية المحفورة إلى جانب ذلك الشكل. فوجده حيث هو من مكانه، في ذلك المتحف المتواضع القديم الكائن إلى يسار دجلة بجوار المدرسة المستنصرية.
 وفي عام 1972 برّح به الشوق إلى رؤية ذلك الصديق فوجده قد انتقل إلى مكانه الجديد في بناء المتحف الحديث الواسع، والكائن في منطقة الكرخ من بغداد على الضفة اليمنى من نهر دجلة، فَلَحِق به.
 تأتّى حبُّ أديبنا العجيلي لهذا الحَجِر من كونه يرجع إلى أربعين قرناً خلت، أي إلى أربعة آلاف سنة قبل آخر زيارة قام بها الدكتور العجيلي لصديقه الأثير ذاك.
 الشكل الذي يحمله الحجر يمثّل مثلثاً قائم الزاوية.. أُقيمَ من زاويته القائمة عمود على وتره. والكتابة التي بجانبه تعطي البرهان على أن المثلثين القائمين إلى جانب العمود متشابهان.
 حجر صغير، ومسألة هندسية بسيطة.. وإذن فلِمَ شُغل بهما طبيب عربي معاصر كلّ هذا الانشغال وأنشأ كل هذه الصداقة مع ذلك الحجر؟..
 الجواب: لقد قوّض هذا الحجر الوهم الذي تسرّب في التفكير، ووقر في النفوس من حيث أن العلوم الوضعية هي بالدرجة الأولى نتاج علماء الإغريق، وثمرة الحضارة اليونانية. فالهندسة، هي "الهندسة الإقليديّة" نسبةً إلى إقليدس اليوناني – حوالي /300/ سنة قبل الميلاد – الذي درس ودرّس في الإسكندرية، وكتب فصلاً عن تشابه المثلثات وأضحى إقليدس هذا لدى الغرب المتحضر، وليدنا من ثم أبا الهندسة وسيدها ومبدعها. أما من سبقه إليها بسبعة عشر قرناً بالتمام والكمال فلا وجود له لسبب وحيد هو إنه نتاج حضارة إنسان هذه المنطقة التي عملوا ويعملون على تدميرها لمحو معطياتها التي تؤكد الحقائق وتدحض الأوهام. ولسنا ندري ما إذا كان قد نجا ذلك الحجر البازلتي الصغير من حقد الفاتكين بالذاكرة الإنسانية!! أم إنه استلب مع ما استلبه "المتحضرون" غداة غزوهم الهمجي للعراق؟!!
أصدر د. فيصل عبد الله بالاشتراك مع زميله د.عيد مرعي كتاباً أسمياه: "تاريخ الوطن العربي القديم".
 وثمة من الباحثين ومن السياسيين من أطلق على هذه المنطقة أسماء هلامية أمثال: الشرق الأدنى، الشرق الأوسط، الشرق المتوسطي الآسيوي.. وما شابه ومثلما تباينت التسميات وتعددت وجدنا من يطلق على لغاتها اسماً لا تاريخ له ولا جغرافيا ولا سنداً علمياً هو "اللغات السامية". والسؤال:
• كيف نوصف الإطار الجغرافي والبيئي للمنطقة المعيّنة بتلك التسميات المتباينة؟. وما أهمية معطياتها الحضارية بالنسبة للإنسانية بصورة عامة؟
 الجواب: المعطيات عظيمة جداً ولكن هل منعتها هذه الصفة من التطاول عليها والعبث بها؟.
عثر المنقبون في أرض الرافدين على أقدم المعابد التي عرفتها البشرية، وقد كان هذا المعبد مخصصاً للإله (أنكي) الذي هو (إيا بالأكاديّة) كما يقول أصحاب الاختصاص.
 وكان مركز عبادة هذا الإله في مدينة (إيريدو) الواقعة جنوبي الرافدين (تل أبو شهر حالياً). ويرى أصحاب الاختصاص أن المعابد هي أفضل ما بقي من أبنية المرحلة العُبيدية، وأن المدن تضخمت فيما يبدو حول المعابد.
 وكان الإنسان الرافدي قد أسبغ صفات بشرية على الآلهة. ثم أن الآلهة الكونية (آن، إنليل، إنكي) احتلت المركز الأول بين الآلهة الرافدية.
 إلا أن الإله (آن) الذي هو إله السماء والذي هو "أنو" بالأكادية، سيُعدّ الإله الكبير وحامي النظام الكوني.
 وفي بلاد الشام سيكون (إل) ملك الآلهة وفوق الجميع وقد يصير إلى (إل) هذا "أل" التعريف باللغة العربية. والسؤال هو:
1- كيف نوصّف الحياة الدينية لدى إنسان المشرق العربي القديم؟
2- إلى أي حدٍ يدلنا "نعت الإله الكبير" على فكرة التوحيد التي قالت بها الأديان السماوية الراهنة؟
3- بماذا نفسر أن ديانة الأكاديين الذين هم أول أسلاف تاريخيين للعربية قد ذابت في محيط جارتها السومرية؟.
4- كيف ننظر إلى الشعور الديني، والبعد الروحي لذلك الإنسان القديم؟..
أسئلة سقطت منها شارات استفهامها فهل بقي لدينا منها ما يستوجب الإجابة عنه في هذا التشظي الموشك على الحدوث؟!! وهل في تساؤلنا هذا ما يقارب صرخة أبي البقاء الرندي في ضياع الأندلس؟.. حبذا أن لا يكون.