المثقف والحكيم.. بقلم: شادي العمر

المثقف والحكيم.. بقلم: شادي العمر

تحليل وآراء

الأربعاء، ٩ يوليو ٢٠١٤

رويدا رويدا بدأت كلمة حكيم، وأقل منها كلمة الحكمة، تنحسر في الاستخدام العادي للّغة أكثر من ذي قبل. أقول تنحسر أكثر من قبل لأنني أظن أن المفردتين لم تكونا يوماً ما شائعتين في الاستخدام العادي للّغة، فقد ارتبطت الحكمة بالنخبة دائماً، أو الحكماء، والذين أيضاً لم يكونوا كثيرين، لأنه عندما يكثر الحكماء فإنهم لا يعودون كذلك. غير أن المخيال الشعبي العام يبقى يتصور أن زمن الأقدمين هو زمان الحكماء، حتى لتكاد تظن أن حكماء العصور السابقة كانوا يسكنون كل شارع، وينتمون لكل عائلة. لكن منطق التقدم البشري يفترض أن يكون حكماء اليوم أكثر عدداً من سابقيهم، لزيادة البشر أولاً، وثانياً للفارق الحضاري والعلمي بين ما تعيشه البشرية اليوم وما كانت تعيشه في الأمس القريب والمتوسط، وثالثاً لانتشار التعلم واتساع مجالات العلم واختصاصاته، و... إلخ.
إذا صحّ افتراضنا أن الحكماء زادوا عن ذي قبل، فلماذا انحسر تداول لفظي الحكمة والحكيم أكثر؟
في الحقيقة التي أظن: إن ما انحسر هو استخدام اللفظ، وليس المعنى، وإن المثقف والثقافة هما اللفظان اللذان حلّا في الاستخدام مكان الحكيم والحكمة، فالمثقف هو حكيم عصرنا، هذا من حيث التعريف النظري المجرد، والذي لا يلزم عنه أن يكون مطابقاً للواقع (أو أن يكون مثقفونا حكماء حقاً). ذلك لأن التعريف النظري يتضمن في فحواه قيمة ما يجب أن يكون، بغض النظر عما هو كائن بالفعل. وكما اتصف أناس كثيرون بالحكمة فيما مضى ولم يكونوا كذلك، نجد كثيرين يوصفون بأنهم مثقفون، رغم أنهم في الحقيقة ليسوا كذلك. أو على الأقل هم كذلك من جهة ما، أو لدى شريحة ما! أو هم مثقفون من الناحية التقنية، لا من الناحية الإبداعية. الأمر يشبه تماماً الفرق بين أن نصف كل من نظم الشعر بأنه شاعر، وبين أن نصف (درويش أو المتنبي أو أبو ريشة..) بأنه شاعر.
ولكن لماذا حصل هذا الانزياح في اللفظ من الحكيم إلى المثقف؟ ما سأعرضه على عجل في تفسير ذلك ليس سوى محاولة تعتمد في معظمها على الرأي الشخصي. ورأيي هنا يتركز على الفرق النوعي بين الحكمة القديمة والحكمة المعاصرة (أو الثقافة)، وعلى الفرق أيضاً بين منهج الحكيم القديم ومنهج الحكيم المعاصر (أو المثقف). فالحكمة ترتبط في أكثر من لغة بالتأمل النظري المجرد، وكما أن الفلاسفة السابقين كانوا حكماء، أو محبِّين للحكمة كما في الأصل اليوناني. (أصل كلمة فلسفة هو فيلو - صوفيا، فيلو تعني الحب، وصوفيا تعني الحكمة).
أما في الحضارة الحديثة، وبعدها المعاصرة، فقد جاء العلم كمنافس قوي وبديل محتمل عن الفلسفة، ورغم الجذع الواحد الذي ينتمي إليه كلا المجالين (الفلسفة والعلم) فإنهما في الحقيقة مختلفان في المنهج والطريقة والبرهان اختلافاً كلياً، ولقد جاء العلم ليوسّع من أفق الوعي البشري، فأخرجه من عنق زجاجة التأمل النظري المجرد إلى رحابة التجربة العملية والاحتمال وإمكانية التحقق الفعلي.
لم يقضِ العلم على الفلسفة كما أمل كثيرون بينهم علماء وفلاسفة، ولم تستطع الفلسفة بالمقابل أن تكبح في العلم طموحه الجامح، وتثنيه عن الواقعي والفعلي والمتعيّن (بالمناسبة كان أفلاطون يعتبر الواقعي والمتعيّن وهماً لا قيمة له ولا وجود، ومن ثم لا يمكن معرفته!) بل إن العكس هو الذي حصل، فبدأت الفلسفة تنسحب خطوة إلى الوراء، وتعيد النظر في طموحها نحو فهم كل شيء ومعرفة المجهول بالاعتماد على التأمل النظري المجرد، وكما أن العلم صار شيئاً فشيئاً العنصر الأكثر حضوراً وتأثيراً في حياتنا، أصبحت الثقافة نظرية واسعة الأفق، يعتمد عليها الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع في تفسير ظاهرة الإنسان والإجابة عن الأسئلة الكثيرة حول طبيعته ونشأته ومعتقداته.. وحتى مصيره. وهكذا حلّ المثقف الحق في زماننا مكان فيلسوف زمانه، أو قل إن شئت.. حكيم زمانه!.