نقد الفن التجريدي (2).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

نقد الفن التجريدي (2).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الجمعة، ٤ يوليو ٢٠١٤

في كتابه "عصر الصورة" يؤيد الباحث العربي المصري شاكر عبد الحميد ما يراه (إ.ب فلدمان) من أننا يمكننا - بشيء من الخبرة – أن نحكم على مهارة الفنان في خلق الإلهام بالواقع. ومن أجل خلق مثل هذا الإلهام يرى الباحث (عبد الحميد) أن بعض الفنانين يقومون بإعادة إنتاج كل تفاصيل النموذج الذي يحاكونه، مفترضين أن العمل الفني الواقعي هو حصيلة المكونات التي جرت ملاحظتها بطريقة دقيقة وجُسدت بطريقة متقنة. ويطلق أحياناً على مثل هذا المنحى من الفن اسم (المنحى الواقعي) بالرغم من أن اختراع آلة التصوير (الكاميرا) قد جعل من مثل هذا الفن أمراً قديماً أو مهجوراً أو ينبغي هجره. فإن ثمة عودة متجددة حديثة إلى هذه الأشكال الفنية الواقعية لعل أبرزها ما يسمى الآن بـ ( الفوتوريا ليزم) أو الواقعية التصويرية. ويشير الباحث عبد الحميد أيضاً إلى أن الفنانين الكبار قد عرفوا في الماضي كيف يمكنهم أن يخلقوا الإيهام الواقعي دون أن يعيدوا إنتاج كل ما تراه العين؛ من حيث أن الفكرة التي كانت مهيمنة عليهم هي الإمساك بالجوهر. وسيجد كثير من فناني اليوم إنه من غير المجدي التنافس على الكاميرا لأن المشكلة الأساسية في الفن – كما يرونها – هي في خلق صور قابلة من خلال الاستخدام للحقائق البصرية. ونحن نسأل أصحاب الاختصاص هل "الحقائق" مثل "الرؤية" بصرية وقلبية.. قلبية وبصرية؟! وهل امرؤ القيس حين رسم بالكلمة الشعرية "دارة جلجل" احتاج لمن ينظّر له أن "المشكلة الأساسية في الفن هي في خلق صور قابلة من خلال الاستخدام للحقائق البصرية.."؟؟!
الفنان العربي الراحل غازي الخالدي رسم اللوحة وكتب القصة والقصيدة والمقالة وساهم في تأسيس نقابة الفنون الجميلة واتحاد الفنانين التشكيليين العرب واتحاد الكتاب العرب. وعلى الرغم من هذه السعة كلها وجدناه خلال واحدة من الندوات التي أقمناها في كاتب وموقف عن الفن التشكيلي يعلن غضبه ورفضه للفن التجريدي ويصف أصحابه بأنهم يضحكون على أنفسهم أولاً بقدر ما يستهزئون بالناس، ورأى أنهم مجردون أصلاً من أي فكر وأي فن. وأورد أمثلة عن بعض الأعمال التي يسمونها فناً بأنها مهازل! وهو بهذا التوصيف يلتقي مع الفنان العربي السوري أيضاً عز الدين شموط الذي يرى أن تاريخ الفن والإنتاج الضخم للأعمال الفنية غير التجريدية منذ ظهور الانطباعية حتى يومنا هذا تشهد على أن التجريد لم يكن سوى معترضة بسيطة. فنحن نعلم أن الفن الأكاديمي استمر حتى يومنا هذا، والفن الواقعي والفن الكلاسيكي الجديد ورسوم "الأوريانتاليست"، وظهور المدرسة "البريرفائيليت" والرمزية والمدرسة المكسيكية والواقعية الأميركية والواقعية الاشتراكية والسريالية والواقعية المتطرفة وحركة خداع العين... الخ. هذه الحركات تم ويتم التركيز عليها اليوم أمام انحسار الفن التجريدي.
 لقد فهم منظرو الفن التجريدي من الانطباعية على أنها خطوة نحو التجريد وإن كل التطور اللاحق لها إنما هو تطور منطقي ووحيد الجانب يسير نحو التجريد، الذي هو مشروع يرفض كل تشخيص أو تمثيل، لأن الواقع عامل مخرب للفن الصافي. لذا يجب تعطيل كل إشارة للعالم الخارجي، وأن تكتفي اللوحة بذاتها. فحاولوا تفصيل تاريخ الفن حسب هذه المعطيات فقط، فشوهوا بذلك مفهوم الانطباعية، يقول ارنهايم:
 " إن هدف الفن الانطباعي هو تسجيل علامات بصرية، فالمهم في رسم الشجرة وضع بقع لونية تقريبية، بتجمعها وتجاورها توجه عين الناظر نحو فكرة عامة للشيء، أي تحويل الشيء إلى هيكل عام خالٍ من أي صفة ملموسة مباشرة للواقع". "إيم" في كتابه "الفن التجريدي" يقول:
 "الفن التجريدي هو فن ثوري، قلب مفهوم الفن التشكيلي وتقاليده التي عرفت منذ أكثر من ألفي عام." وهو يعتبر أن "بداية هذه الثورة أعلنها بودلر والفنانون الانطباعيون، والوحشيون، دون أن يعرفوا ذلك. وجاءت التكعيبية لتحطيم شكل الأشياء لإعادة بنائها من جديد، خارج نطاق التمثيل والتشخيص. وكان هؤلاء الفنانون في منتصف الطريق المؤدي إلى التجريد".
 يدّعي "إيم" أن الفن التجريدي هو فن الجدة والحداثة المطلقة والإبداع المستمر والثورة الدائمة والتمرد المطلق، ويدعو إلى قطع الصلة مع الماضي للوصول إلى مدرسة فنية نقية خالصة، لأن كل فن واقعي لا جديد فيه، وعلى الفن الجديد أن يكتسي أهميته من الانكفاء على ذاته، لهذا يجب الذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه الانطباعيون والتكعيبيون، أي إلى قطع الصلة تماماً مع الطبيعة، لذا على اللوحة أن تهتم فقط بحياتها الداخلية، وأن تقطع الصلة مع الخارج، لتتخلص من دورها كأداة تشير إلى الواقع، فهي غير قادرة على تصوير أو تمثيل الأشياء بالعالم الخارجي، ولا حتى تسجيل إحساسنا لهذا العالم. على اللوحة أن تتوقف تماماً عن الرحلة المكوكية المستمرة بين فكر وإحساس الفنان والمشاهد والطبيعة، هذه الطبيعة التي كانت فقط حجة للرسم عند الانطباعيين والتكعيبيين.
 هكذا نرى أن منظري الفن التجريدي قد ذهبوا بعيداً بتزوير تاريخ الفن، إن حصر الحداثة والإبداع والتجديد في الفن التجريدي ينفي الحداثة والإبداع عن الفن التشكيلي منذ فن الكهوف، مع أن أرسطو عرّف الإبداع بالمحاكاة، إن أعمال دومييه وغويا مثلاً تعتبر نقداً للواقع وإبداعاً جديداً، حتى الواقعية المتطرفة والسريالية هي تجاوز للواقع بعد المرور به، حتى آلهة الآشوريين والفرعونيين التي تحمل صفات إنسانية وحيوانية هي إبداع وتجديد. وهل الواقع أو الطبيعة توقفت عن التجديد؟..
 
 (يتبع....)