معنى المعنى! (1 من2).. بقلم: شادي العمر

معنى المعنى! (1 من2).. بقلم: شادي العمر

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٨ أبريل ٢٠١٤

الفعل اللغوي خاصة بشرية خالصة، فالإنسان كائن حي عاقل يعادل تعريفه حيواناً ناطقاً. والفعل اللغوي فعل تشاركي لا يقوم به الإنسان بمفرده، لأن أولى وظائف اللغة هي التواصل، ينتج عنه أنه فعل مركب من فعلين، فعل الكلام الذي يؤديه المتكلم، وفعل السماع الذي يؤديه المستمع. يمكن أيضاً تصنيف فعل المتكلم على أنه فاعل، وفعل المستمع على أنه منفعل، لأن الأول شرط لقيام الثاني. والأمر ينطبق على فعلَي الكتابة والقراءة المساويين في جوهرها للتكلم والسماع، فالكاتب متكلم يصدر عنه الكلام مرسوماً، والقارئ مستمع ينفعل برؤية الصور التي رسمها الأول.
ثمة أسئلة مطروحة تتناول فعلي التكلم والاستماع بوصفهما فعلين يشترط كل واحد منهما الآخر. الفعل الأول يهدف إلى تركيب المعنى (معنى) والفعل الثاني يهدف إلى فضّه. فالمتكلم يقصد من كلامه صناعة المعنى، والمستمع يقصد من استماعه فهم المعنى. إذن، فالاثنان فاعلان عندما يستقل كل فعل على حدة.
إذا افترضنا القبول بقسمة العالم إلى مادة وصورة، حس وانطباع، أشياء وأفكار، موجودات ومعقولات، فإن صناعة المعنى تقوم على الانتقال من الحد الأول إلى الحد الثاني في هذه التقابلات. فالمتكلم الذي يريد قول أبسط أنواع الكلام، كجملة «الجو بارد» مثلاً، يبني كلامه على إحساسه المادي يجسده من خلال خبرة حسية مباشرة، مبنية على ارتجاف أطرافه وتغيّر مضطرب في الدورة الدموية لديه، يرافق كل ذلك اضطرابٌ في أدائه الفيزيولوجي يؤدي به إلى الإجهاد والتعب والعجز عن أي نشاط عضلي أو عقلي. وقد تختلف عبارة المتكلم باختلاف درجة إحساسه بهذه الأحاسيس، فيمكن أن يقول: «أشعر ببعض البرد» أو «أشعر بالبرد القارس» أو «أشعر أني سأموت من البرد». إن هذه العبارة المجردة التي قامت على أحاسيس مباشرة ستصبح ذات معنى وبمجرد تلفظ المتكلم بها، وسيفض السامع معناها ويفهمه مباشرة، حتى لو كان الأول يتكلمها عبر الهاتف من شمال الكرة الأرضية إلى الآخر الذي قد يكون ماشياً تحت لهيب شمس خط الاستواء جنوب إفريقيا.
نفس العملية يبنى عليها القول «هذه القهوة مرة - هذا الطعام مالح- أنا جائع- شعر حبيبتي ناعم- صوت الموسيقى عال- دوي صفارة الإنذار موتّر»... ولكن كيف سيتفق هذا الأمر مع عبارات أكثر تجريداً مثل «هذه القهوة ممتعة- هذا الطعام لذيذ- وجهك جميل- رائحتها زكية- موسيقى الفالس فرحة- صفارة الإنذار مريعة»؟ أو عبارات تستقل تماماً عن كل محسوس (الصدق نافع- الحرية حق- العدالة واجب- الحب عظيم- العلم نور- العقل نعيم- الله أكبر) وصولاً إلى عبارات العقل المجردة تماماً «الكل أكبر من الجزء- زوايا المثلث تساوي قائمتين- المتناقضتان لا تصدقان معاً ولا تكذبان- أ هي أ- الشيء هو هو»..
العملية واحدة، تقوم على الانتقال من البسيط إلى المركب. وأبسط المعاني هي تلك التي يتناولها الحس وتوصلها الحواس. وذلك أن عبارة «الجمل أكبر من البيضة» يكررها حس البصر لكون الجمل والبيضة ممكنين للرؤية، ومصطلح «أكبر من» ينقل فرق الانطباع الذي تولده رؤية كليهما. ثم إن رؤية الجمل على حدة، ومقارنة رأسه الذي هو جزء بالنسبة لجسده الذي هو كل، يمكن تعميمها على بقية الأشياء، فيكون «الكل أكبر من الجزء»، كذلك من يرى الجمل للمرة الأولى ويسأل عنه ويحصل على الجواب، لن يسأل عنه مرة أخرى لأن «ما هو يبقى هو هو ولا يتغير».
إن العالم هو مجموع الأشياء الموجودة والواقعة بالنسبة إلى بعضها بعضاً «جانب- فوق- تحت- بعيد- قريب- كبير- طويل-... الخ»، أما الكلام فهو تسمية هذه الأشياء والعلاقات التي بينها بناءً على عمليات معقدة منها المقارنة والتعميم والتخصيص والاستدلال، تقوم كلها على الانتقال من «بسيط» إلى «مركب»، ثم يتحول «المركب الجديد» إلى  بسيطٍ لينتج «مركباً» أعلى منه، وهكذا دواليك...