عن المفاوضات الأميركية ـ الروسية حول سورية: لماذا تصرّ موسكو على الاستمرار بالتفاوض؟.. بقلم: محمد صالح الفتيح

عن المفاوضات الأميركية ـ الروسية حول سورية: لماذا تصرّ موسكو على الاستمرار بالتفاوض؟.. بقلم: محمد صالح الفتيح

تحليل وآراء

السبت، ١٠ سبتمبر ٢٠١٦

منذ أشهر والعالم يترقب خروج الدخان الأبيض إيذاناً بإنجاز الروس والأميركيين اتفاقهم حول سوريا، وهو الاتفاق الذي نعلم الآن بعض خطوطه العامة، بفضل التسريبات الأميركية، أولاً العرض الأميركي لموسكو كما سرّبته «واشنطن بوست» في 13 تموز الماضي، ثم رسالة المبعوث الأميركي مايكل راتني للمعارضة السورية في 3 أيلول الحالي. محاولة إيجاد صيغة للتعاون في محاربة الإرهاب، «داعش» و «جبهة النصرة»، هي الواجهة التي يعمل الطرفان خلفها لإنجاز تفاهمهما حول مستقبل سوريا والحل السياسي فيها. بات من الواضح أيضاً أن المفاوضات شاقة للغاية والشروط الأميركية مرتفعة للغاية، ولكن الروس مصرّون على رفض إعلان فشل المفاوضات.
تظهرُ المقارنةُ بين التسريبين، اللذين يفصل بينهما شهران، أن الخطوط العامة للاتفاق لم تتحسن، بل يمكن القول، وبكثير من الموضوعية، أنها أصبحت أكثر سوءاً، سواء لناحية ما يقدمه الأميركيون أو لناحية صرامة التعهدات التي يلزمون أنفسهم بها. في العرض الأول تحدث الأميركيون عن إنشاء مجموعة تنسيق أميركية روسية تُنجز خلال «ما لا يزيد عن خمسة أيام على إنشائها» خريطةً مشتركةً تحدد مواقع التجمعات الكثيفة لـ «جبهة النصرة»، تمييزاً لها عن الفصائل الأخرى. يبدأ بعد ذلك وقفٌ لإطلاق النار، يلتزم فيه الجيش السوري بإبقاء طائراته على الأرض، فيما يتولى الروس والأميركيون استهداف الإرهابيين. وسيقومان بمراقبة أنشطة سلاح الجو السوري، بما في ذلك أدق التفاصيل الفنية؛ ولن يُسمح للجيش السوري بالتحرك، حتى دفاعاً عن النفس، إلا بعد إبلاغ غرفة العمليات الأميركية - الروسية المشتركة. والهدف النهائي لهذا الاتفاق هو التوصل إلى تفاهم روسي ـ أميركي على مسائل عدة، أهمها إطارٌ للانتقال السياسي في سوريا وفقاً للقرار 2254. وبرغم كل مساوئ هذا العرض، جاءت رسالة مايكل راتني لتكشف أن هناك ما هو أسوأ.
فيما لم يتضمن العرض الأميركي في تموز أي مطالبة بانسحاب الجيش السوري من أي نقطة، تكشف رسالة راتني أن المطلوب الآن هو تحويل منطقة طريق «الكاستيلو» إلى منطقة منزوعة السلاح، ورفع الحصار عن حلب الشرقية. تفاصيل الانسحاب من «الكاستيلو»، المفصلة للغاية، وصولاً إلى عدد الجنود المسموح ببقائهم، لا تقابلها سوى إشارة إلى أن مقاتلي المعارضة سينسحبون من مناطق سيتم تحديدها لاحقاً. وهناك إشارة إلى أن المفاوضات لاتزال مستمرة لتحديد الجهة التي ستدير حاجزي تفتيش، سيتم إنشاؤهما على طريق الكاستيلو، وهذه إشارة إلى نية شرعنة التدخل بحجة المراقبة. وفي رسالة راتني، حل هدف «إضعاف القاعدة» محل هدف «هزيمة داعش والنصرة»، في عرض تموز. أما الأكثر أهمية فهو غياب جدول زمني واضح لبدء العملية السياسية. باختصار، ستحصل واشنطن على اتفاق وقف إطلاق للنار، وزيادة وجودها على الأراضي السورية، وقد يؤجَّل حل الملف السوري إلى ما بعد وصول الإدارة الأميركية المقبلة. ولكن لماذا تستمر موسكو بالتفاوض وفق هذه الشروط السيئة؟ الغالب أن موسكو تدرك أن الاتفاق، على مساوئه، يبقى أفضل من اللااتفاق. فما هو منبع هذه الرؤية الروسية؟
بدايةً، كان هدف موسكو المعلن منذ بداية تدخلها العسكري في سوريا، قبل عام تقريباً، هو تسريع التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، وقد ظهر هذا واضحاً من خلال حرص بوتين على لقاء أوباما قبيل انطلاق العملية العسكرية، ومن خلال اللقاءات الرباعية، الأميركية الروسية التركية السعودية، في فيينا، في تشرين الأول الماضي، وأيضاً من خلال تمرير روسيا للقرار 2254 الذي وضع جدولاً زمنياً للحل السياسي في سوريا. إذاً، أولوية موسكو، منذ البداية، هي انتزاع اتفاق سياسي صعب وليس انتزاع انتصار عسكري شبه مستحيل، ومكلف للغاية.
ثانياً، تراقب موسكو بعض التطورات الخطيرة في الميدان السوري. الدخول التركي إلى الشمال السوري هو واحد فقط من هذه التطورات. في السابق، كانت تركيا تُدخل السلاح والمسلحين إلى سوريا عبر معبرين حدوديين رئيسيين اثنين، باب السلامة في حلب وباب الهوى في إدلب، ولم يكن من السهل دائماً رصد هذين المعبرين واستهداف الأرتال الآتية. أما اليوم، ومع زوال جزء مهم من الحدود السورية التركية، سيكون من المستحيل استهداف أرتال المسلحين التي ستتجاوز خط الحدود السابق وتتحرك ضمن أراضي يسيطر عليها الجيش التركي، وهو جيش «أطلسي»، قبل أن تشق طريقها إلى إحدى الجبهات مع الجيش السوري. لن يكون من السهل رصد هذه الأرتال أو استهدافها ضمن الأراضي التي يحتلها الجيش التركي من دون المخاطرة بالتصعيد مع تركيا، وهذا ما لا تريده موسكو، وتتمناه واشنطن ضمنياً. ومن المتغيرات الأخرى أيضاً تزايد الوجود العسكري الأميركي في الأراضي السورية. «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، الذي طالما اعتبرته دمشق ورقةً مهمةً وزوّدته بكل ما يحتاجه، أدار لها ظهر المجن وقدم للأميركيين قاعدةً جويةً أولى في رميلان وأرضاً في عين العرب بنوا عليها قاعدةً جويةً ثانية. وهناك أنباءٌ اليوم عن أن الأميركيين يتطلّعون إلى «مطار الجراح»، غرب الفرات، الواقع تحت سيطرة تنظيم «داعش»، ليكون قاعدتهم الجوية الثالثة. هذا الوجود الأميركي المتصاعد، والذي يتمدّد أيضاً في الجنوب عبر «جيش سوريا الجديد»، لا يحمل ملامح وجودٍ مؤقت، وموسكو تدرك ذلك وتراقب هذا الوجود وهو يتمدّد باتجاه مناطق نفوذها.
ثالثاً، تدرك موسكو أن الخطر الإرهابي في سوريا قد فتح الباب لكل راغب بالتدخل بحجة مواجهة الإرهاب، ولم يعد من السهل منع هذه الدول من التدخل. منذ فترةٍ غير بعيدة كان هناك مَن يراهن على أن تفاقم الإرهاب في سوريا سيدفع الغرب، ما إن يكتوي بنار الإرهاب، لتغيير مواقفه من دمشق والتعاون معها ضد الإرهاب. سقط هذا الرهان. الغرب الذي برع باستخدام ورقة الإرهاب للتدخل في شؤون الدول الأخرى يستخدمها اليوم كذريعة للتدخل في سوريا. قوات خاصة أميركية وبريطانية وفرنسية وألمانية تتواجد الآن على الأراضي السورية، وقوات نرويجية وصلت إلى الأردن لتدريب مقاتلين سوريين للتصدي للإرهاب، وقد تدخل القوات النرويجية بدورها الأراضي السورية. وخطوط العرض الأميركي، سواء في صيغته الأولى أو الثانية، تنص صراحةً على أن تنتحي القوات السورية جانباً، فيما تتولى الولايات المتحدة وروسيا مهمة محاربة الإرهاب.
رابعاً، بعد ثلاثة أسابيع من الآن، يُكمل التدخل العسكري الروسي عامه الأول؛ لا مجال هنا لتقديم تقييم موضوعي شامل للتدخل الروسي، ولكن يمكن القول إن العامل الرئيسي الذي جعل لائحة الإنجازات الميدانية الروسية قصيرةً نوعاً ما هو تصاعد الدعم الخارجي للمسلحين. فعلى سبيل المثال، في الشهر الأول للتدخل العسكري الروسي، استخدم المسلحون حوالي 150 صاروخاً مضاداً للدبابات، منها نحو 120 صاروخ «تاو»، وهذه حصيلةٌ مرتفعةٌ للغاية إذا ما علمنا أن حصيلة أكثر من خمسين شهراً، سابقة للتدخل، كانت حوالي 860 صاروخاً فقط. وخلال الأشهر الماضية نقلت واشنطن ما مجموعه 4700 طن من الأسلحة، من رومانيا وبلغاريا، لتكون وجهتها النهائية هي الأراضي السورية. وصلت الدفعة الأولى منها في نهاية العام الماضي، ولعل أهم ما احتوته، بحسب مجلة Jane’s للشؤون الدفاعية، هو حوالي 800 صاروخ مضاد للدبابات من طراز «فاغوت» السوفياتي الصنع. لم يظهر أثر هذا الصاروخ إلا في شهر آب الماضي. فللمرة الأولى، منذ نيسان 2014، تخلى صاروخ «تاو» عن تصدر قائمة ما يتم استخدامه من صواريخ لصالح صاروخ آخر، هو صاروخ «فاغوت» الوافد حديثاً. تُراقب موسكو شحنات الأسلحة الأميركية وهي تعلم جيداً أن تأثير هذه الأسلحة في ميزان القوى، يحتاج لأشهر عديدة هي الفترة اللازمة لتدريب المقاتلين وتوزيع الحصص وتأمين نقلها وتخزينها، وبالتالي فإن تأثير الشحنات التالية لمَّا يظهر بعد. تنقل موسكو بدورها كمياتٍ كبيرةً من السلاح إلى الميدان السوري، ولكنها تدرك أن الاكتفاء بالرهان على «سباق تسليح» في سوريا يعني نجاح واشنطن في تحويل سوريا إلى مستنقع أفغاني جديد.
أخيراً، تدرك موسكو أنها في سباق مع الوقت وأن النافذة تضيق لإنجاز حل قبل نهاية ولاية أوباما التي باتت الطرف الوحيد في واشنطن الراغب بالتوصل إلى صفقة مع موسكو، بعدما باتت وزارة الدفاع الأميركية ومجمع المخابرات الأميركي، وحتى دوائر كثيرة في الخارجية الأميركية معاديةً تماماً لموسكو وتطالب بمواجهتها واستنزافها في سوريا. وإذا ما وصلت هيلاري كلينتون إلى المكتب البيضاوي فستكون تلك ثالثة الأثافي. أوباما من جانبه، وإن كان يسعى بجد لإنجاز حل للأزمة السورية، إلا أنه لن يفوّت على نفسه فرصة انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب، وهو يحتاج هذه المكاسب لتمرير الاتفاق في واشنطن.
لكل هذه الأسباب، وغيرها، تصر موسكو على استمرار المفاوضات وعدم الاعتراف بفشلها، برغم السقف الأميركي المرتفع. ولكن هذا لا يعني أيضاً أن موسكو تستعد للتنازل لإنجاز الاتفاق بأي ثمن، أو أن الاتفاق بات أمراً واقعاً. ففي الحقيقة، ومع مضي المزيد من الوقت، تَرجح كفة فشل المفاوضات. وإذا ما فشلت المفاوضات فعلاً، ربما يمكن العودة إلى الفقرات السابقة في محاولة لتكوين صورة عن المسار المقبل للحرب الأهلية السورية.