قراءة في تقرير تشيلكوت..بقلم: عبد المنعم علي عيسى

قراءة في تقرير تشيلكوت..بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الخميس، ١٤ يوليو ٢٠١٦

كان مهماً أن يكتمل عقد الاعتراف بالخطأ في قطبي المحور الانكلوساكسوني الذي شكّل عصب القوة التي هاجمت العراق وأسقطت عاصمته بغداد 9 نيسان 2003، فقد سبق لنصفه الأمريكي أن أعلن على لسان وزير خارجيته أن إدارته قد أخطأت بقرار غزو العراق (كولن باول 9 نيسان 2005)، قبل أن يضيف: إن ذلك اليوم الذي وقف فيه في مجلس الأمن (5 شباط 2003) ورفع بيديه صوراً قال إنها لمنصات إطلاق صواريخ عراقية متنقلة كانت قد التقطتها الأقمار الصناعية الأمريكية، هو أسوأ يومٍ في حياته.
في تلك اللحظات كانت آذان العالم وأبصاره كلها تسمع- وترى- فقط ما يقوله- ويرفعه «شارلوك هولمز» العصر، ولم يكن ممكناً لأي مشهد آخر في العالم أن يشدَّ تلك الآذان والأبصار عن مسرحيته المتقنة التي أذهلت الجميع فخرجوا جماعات وفرادى ينادون باجتياح العراق! ففي لحظة من اللحظات تلعب الأكاذيب والفبركات التي تسوقها أجهزة استخبارات عملاقة (ومن ورائها مصالح هائلة) دور الحقيقة التاريخية وتتلبس لبوسها ومن الممكن أن تتحول- كما تحولت مراراً- إلى أرضية صلبة لتحقيق أهداف مرجوة أو مخططات تمّ العمل عليها لعقود وعقود، ولا أهمية (كبرى) لانكشافها فيما بعد وهو أمر لا يحدث في الأغلب إلا بعد خروج صناع القرار من مناصبهم ولذا فإنهم سيكونون بالتأكيد أقل تأثراً مما لو كانوا في سدّتها إلا إذا استطاع الحدث (انكشاف الفبركات) أن يؤدي بهؤلاء إلى مساءلات قانونية جدية لكن من الواضح أن تركيبة المجتمعات الغربية لا تزال غير ناضجة لتحولات من هذا النوع انطلاقاً من أن القوى والمصالح الداخلية في تلك المجتمعات لا تزال ترى أن الوقوف صفاً واحداً وراء قيادتها السياسية في أي عمل خارجي هو أولوية وخصوصاً إذا ما كانت دوافع ذلك العمل المنفعة الاقتصادية وأضراره في أغلبيتها القصوى تقع على الآخر الخارجي (نتج عن مشاركة بريطانيا في غزو العراق ائتلاف سمي باسم أوقفوا الحرب وقوامه الأساسي هو أسر الضحايا البريطانيين الـ179 الذي سقطوا في تلك الحرب وهم بالتأكيد لا يمثلون سوى قوة بسيطة).
تأخر البريطانيون عن الأمريكان إحدى عشرة سنة ولن نكون سلبيين فنقول وماذا يفيد كل ذلك بعد خراب البصرة!! فالتقرير مهم وهو يرصد تحولات مهمة تجري في عمق المجتمعات الغربية (والبريطانية تحديداً) وهي من النوع البطيء إذ لطالما كان صراع القيم والمبادئ الإنسانية مع المصالح صراعاً أزلياً وبطيئاً وقد كان مهماً أن يذهب التقرير إلى اتهام حكومة طوني بلير بإضعاف دور الأمم المتحدة عبر انجرارها إلى غزو العراق من دون مظلة أممية وهو أمر يحمل في طياته إلى جانب معانيه السياسية في ضرورة الالتزام بمعايير الأمن والسلم الدوليين، تنامياً لدور قوى تريد الارتقاء بالجانب القيمي والحضاري وتثقيل وزن كل هذا في اتخاذ القرارات وخصوصاً المصيرية منها. قطبا الغرب اعتذرا بينما العرب المشاركون غير مبالين وهو أمر يعكس ذلك البون الشاسع في عمق التحولات الجارية بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية، ومع ذلك نرى أن القوى السياسية التي تحتضنها هذه المجتمعات تطالب بمكاسب وأدوار تجعلها ندية لنظائرها الغربية وهو ما يطرح إشكالية كبرى في مدى جدية تمثيل تلك القوى للواقع السياسي الذي نعيشه ومدى فهمها للمرحلة السياسية أو ماهية احتياجاتها الكفيلة بانتقالها قدماً على درجات السلم الأعلى.
بقي أن نشير إلى أمر مهم جداً يتمثل في طبيعة التعاطي الأميركية مع أحداث أيلول 2001 فواشنطن وهي تقف في أتون برك الدماء الناجمة عنها كشرت عن أنيابها تجاه سبع دول هددت بغزوها جميعها لم تكن السعودية من بينها لنكتشف فيما بعد أن هذه الأخيرة- وفق الرؤية الأميركية التي ظهرت مؤخراً بقضية الصفحات الـ28 المغيبة في التحقيق الصادر عن اللجنة المكلفة إجراءه والذي صدر في شباط 2012 فقد قيل: إن تلك الصفحات تحوي اتهامات لمسؤولين سعوديين بدعم وتمويل أحداث أيلول 2001- هي المسؤولة الأولى عن تلك الأحداث ومع ذلك انتظرت خمسة عشر عاماً لتكشف عما يجول في أعماقها، هذا الأمر يثير الدهشة تجاه طريقة التعاطي السعودية مع الأمر وقد كان مثيراً للشفقة ما قاله عادل الجبير في مؤتمره الصحفي الذي أعقب خروجه (هو ومحمد بن سلمان) من لقاء باراك أوباما في البيت الأبيض إبان زيارة ابن سلمان المطولة للولايات المتحدة مؤخراً، آنذاك ذهب الجبير إلى تحدّي الإدارة الأميركية أن تكشف عن الصفحات الـ28 الجاري الحديث عنها ثم أرغى وأزبد في تصعيد مستميت للدفاع عن سياسات المملكة.
وللجبير نقول: لا داعي للصراخ ولا لمحاولاته للاستفزاز أو إعلان التحديات فكل ذلك لن يغيّر ما هو مرسوم قيد أنملة ولن يكون بمقدوره تغيّر ميلميتر واحد في السمت الأميركي فكل شيء مرسوم وفق توقيت زمني محدد وإذا ما جاءت آجالهم فهم لا يستقدمون ولا يستأخرون لحظة.