من مهاباد.. إلى «روج آفا» خطأ الحسابات.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

من مهاباد.. إلى «روج آفا» خطأ الحسابات.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٢ مارس ٢٠١٦

في نهاية الحرب العالمية الأولى عقد المنتصرون فيها في باريس سلسلة معاهدات انتهت بتوقيع اتفاقية سيفر (10 آب 1920) التي وقعها الأتراك بوصفهم الطرف المهزوم في الحرب، أعطت تلك الاتفاقية في بنديها من الفقرة الثالثة للأكراد حق إجراء استفتاء شعبي في المناطق التي يعيشون فيها لتقرير المصير.
وصف كمال أتاتورك اتفاقية سيفر بأنها «حكم دولي بالإعدام على الدولة التركية» ما دفعه إلى استثارة شعور شوفيني تركي ليستطيع عبره فرض وقائع جديدة على الأرض وليفرض على خصومه القبول باتفاقية لوزان 1923 التي ألغت مفاعيل اتفاقية سيفر جميعها بما فيها الحقوق الكردية المنصوص عليها في هذه الأخيرة.
آنذاك كانت الإقطاعية الكولنيالية الكردية تفتك بالنسيج المجتمعي الكردي حتى ليصح القول: إن تاريخ هذا الأخير (1920-2003) لم يكن إلا تاريخاً للصراع على السلطة بين أمراء الإقطاع التي تقتضي الظروف أحياناً قيامهم بأدوار أخرى لنراهم تارة وكلاء للخارج وتارة أخرى أمراء حرب يسعون في كثير من الأحيان إلى اشتداد أوارها طلباً لمكاسب أكبر.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية سعت القيادات الكردية إلى التقرب من جوزيف ستالين الذي كانت تحتل قواته إيران منذ آب 1941، فجاءت ثمرة ذلك التقارب الإعلان عن قيام جمهورية مهاباد في شمال غرب إيران عام 1946، كانت تلك الخطوة تستند فقط إلى مظلة ستالين حيث ستثبت الوقائع فداحة تلك الحسابات فما إن أعطى الأوروبيون ضوءهم الأخضر للزعيم السوفييتي بدخول بولندا كجائزة ترضية حتى اتجه هذا الأخير نحو جائزته تاركاً مهاباد لمصيرها المحتوم لتقتحمها القوات الحكومية الإيرانية بعد 11 شهراً على قيامها لتسقط الدولة تاركة وراءها شرخاً عميقاً بين الأكراد ومحيطهم الإيراني حيث سيكون له بالغ الأثر في السياسات التي ستعتمدها طهران في تعاملها مع المكون الكردي الذي يعيش على أراضيها.
عمل أكراد العراق على استثمار التوتر القائم بين بغداد وطهران منذ منتصف الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي لتحقيق مكاسب سياسية في الشمال العراقي الأمر الذي لم يستمر طويلاً ليذهب عراق أحمد حسن البكر نحو تسوية سياسية مع شاه إيران عبر اتفاقية الجزائر 1975 التي أتاحت له العودة من جديد إلى بسط سلطته على كامل الجغرافيا العراقية لتترك تلك التجربة مرة أخرى شرخاً كبيراً بين الأكراد ومحيطهم العراقي الأمر الذي سيكون له أيضاً بالغ الأثر في السياسات التي ستعتمدها بغداد فيما بعد مع المكون الكردي الذي يعيش على أراضيها.
صمّ الغرب أذنيه عن «مظلومية» الأكراد في الوقت الذي كان يرى فيه هؤلاء أن تلك المظلومية تعتبر سبباً كافياً لقيام الدولة الكردية، فيما بعد ستكتشف شريحة أخرى أن هناك مسارات أخرى لقيام الدول لتعلن هذه الأخيرة قيام حزب العمال الكردستاني 27 تشرين الثاني 1978 بزعامة عبد اللـه أوجلان الذي لم يلبث أن أعلن تبنيه طريق العمل المسلح لتحقيق الدولة المنشودة في عام 1984 (بالمناسبة مصطلح أوجلان يعني حرفياً الآخذ بالثأر) وفي أتون ذلك الصراع المحتدم مع أنقرة سيعلن «آبو» (وهو اللقب الذي يطلق على أوجلان ومعناه العم) أن لا مشكلة كردية في سورية، كما أن الأكراد القاطنين فيها هم حديثو العهد، وهم في معظمهم من الهاربين من الاضطهاد التركي أو العراقي (سبعة أيام مع آبو- المؤلف نبيل ملحم الصادر عن دار بيروت للنشر 1985).
قرأت القيادات الكردية التي كانت قد انسحبت نحو جبال قنديل في العراق حادثة اعتقال أوجلان (15 شباط 1999) التي تمت بمساعدة حاسمة من الموساد الإسرائيلي على أنها تمثل الدافع الأكبر للاستعانة بالنفوذ الإقليمي والدولي الذي تتمتع به تل أبيب فكان أن اندفعت نحو مزيد من «التعاون» مع هذه الأخيرة حيث ستشير التقارير الغربية إلى وصول هذا التعاون إلى مستويات ترقى إلى التحالف وخصوصاً بعدما تبين أن رياح أيلول 2001 الأميركية ستحط رحالها في المحطة العراقية ما سعر بدرجة قصوى ذلك التحالف حيث ستعمل تل أبيب ما بعد سقوط بغداد في 9 نيسان 2003 على إقناع واشنطن بالضغط على أنقرة للقبول بحكم ذاتي موسع الصلاحيات في الشمال العراقي بعدما تم إغراء هذه الأخيرة بمكاسب اقتصادية كان قبولها يؤكد قصر النظرة التركية لمسار الأحداث وما تلاها فيما بعد إلى اليوم.
كانت تراجم الحدث العراقي في سورية تجلت في احتجاجات آذار 2004 التي فضحت زيف الإيديولوجيا المعتمدة في الحزب الاتحادي الديمقراطي الكردي PYD بعدم سعي هذا الأخير نحو سيناريوهات انفصالية مثله في ذلك مثل أشقائه الثلاثة في كل من إيران والعراق وتركيا (وإن كان تحت مسميات أخرى) التي تعود في قيادتها إلى الهيئة العليا في جبال قنديل.
عندما خرجت الاحتجاجات السورية آذار 2011 اتخذ الأكراد موقع المترقب الذي ينتظر تغير المعادلات الداخلية والخارجية حيث سيرى هؤلاء في كانون الثاني 2014 أن ما انتظروه قد تحقق ليتم الإعلان عن الإدارة الذاتية التي كانت خطوة معروفة وتنبئ بما سيتلوها إلا أن الفكرة تطورت سريعاً بل أكثر بكثير من المتوقع فيما يشير إلى وجود دفوع خارجية تفعل فعلها لتحكم القرار من دون وجود مسوّغات داخلية له، ظهر ذلك في تبني الأكراد لسياسات تقوم على قاعدة أن التمدد الميداني على الأرض هو الذي يحدّد السياسات المعتمدة حيث سيشكل اجتماع الرميلان 17/3/2016 أجلى صورها.
كان الدينمو المحرك لهذا الاجتماع هو حزب الاتحاد الديمقراطي على الرغم من أن هذا الأخير قد أجهد نفسه للوصول إلى مشهد مغاير لهذا المشهد عبر دعوة العديد من الشخصيات العربية والسريانية دونما أي اعتبار لحالة هؤلاء التمثيلية، فالمدعوون كانوا 200 شخصية كان ثلثهم من العرب والسريان ممن لا يحظون بثقل عشائري أو اجتماعي فقد غاب (مثلاً) شيخ الجبور (حسن المسلط) الذي تعتبر عشيرته الأكثر ثقلاًً على امتداد الجزيرة السورية، كما غاب شيخ طي (محمد الفارس) الذي يفوق ثقله في القامشلي نفسها ثقل الأكراد فيها، ومثلهم فعل (البوشعبان) و(البوبنّا) المنتشرون بكثافة في تل أبيض ومحيطها امتداداً في حدود محافظة الحسكة الغربية، على حين اقتصر الحضور الوازن على الشيخ دهام حميدي (شيخ شمر) الوثيقة الصلة بأفخاذها في السعودية حيث يشكل (أحمد الجربا) صلة الوصل بين الطرفين.
حاول «الرميلانيون» النسج على منوال المجلس الوطني السوري (2/10/2011) عندها ذهب هذا الأخير إلى انتخاب د. برهان غليون العلماني ليرأس تركيبة تسيطر فيها «الإخوانية» على القرار السياسي لها، حيث سيعمد أولئك (الرميلانيون) إلى انتخاب شخصية عربية لترأس تركيبة يسيطر فيها أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي على القرار السياسي فيها.
في قراءة الواقع نقول إن حزب الاتحاد الديمقراطي لا يمثل أكثر من 30% من تعداد السكان في المناطق التي تضمنها إعلان الرميلان (ومن يريد تفاصيل دقيقة نحيله إلى موقع داماس 24) بمعنى أن لا مشروعية لما قام به الـPYD إلا إذا كانت قيادته ترى أن تلك الشرعية تتأتى من هدير الطائرات الأميركية المرابضة في الرميلان بشكل غير معلن.
ثم لنسأل هل السياسات تتحدد عبر الحقوق أم عبر الوقائع؟ ونجيب بل تتحدد عبر الوقائع، فالمسألة اليوم ليست حقوقية وهي سياسية بامتياز فهي لو كانت مطالب حقوقية لظهرت في مسار آخر مناقض لما حدث إذ يشترط للمطالبة بحقوق الأقليات (كما تقول مبادئ الأمم المتحدة) التخلي عن أي مطالب انفصالية على أن يرد ذلك في الإيديولوجيات المكتوبة للأحزاب المكونة لها، إذاً فالمسألة سياسية وهي تتحدد عبر أمرين اثنين: الأول: عبر القوة فالتوازنات القائمة الآن ليست في مصلحة الأكراد فالرفض الإقليمي والدولي أكبر مما يمكن تجاهله على الرغم من ازدواجية الموقف الأميركي، الثاني: عبر المصلحة وهي للأسف ليست متعلقة اليوم بمصالح العرب ولا الأكراد أيضاً.
إن محاولات القفز فوق حدود 1916 مسألة تحتاج إلى حسابات دقيقة من النوع الذي لا يدركه الخطأ فيما تبدو القيادات الكردية من النوع المقامر البعيد كل البعد عن قراءة التاريخ القديم الذي كانت جميع تسوياته على حسابها، والحديث الذي حاول فيه «داعش» القيام بالقفز فوق الحدود ففشل على الرغم من أن الدعم الدولي والإقليمي المقدم له لا يقاس بنظيره الكردي بالتأكيد.
حسناً فعل الرميلانيون أن أعلنوا تسمية إقليمهم (روج آفا) وهي مصطلح يعني حرفياً (غروب الشمس) فهي تسمية على مسمى وهي حكم على الشمس الساطعة في العلم الأصفر الفاقع بالغروب السريع.