حروف النور تهزم النار.. بقلم: د. إسماعيل مروة

حروف النور تهزم النار.. بقلم: د. إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الجمعة، ١٨ ديسمبر ٢٠١٥

كنت أقرأ رسالة أبي حيان التوحيدي الكاتب العربي الذي لا يجارى (الصداقة والصديق)، وكنت كلما قرأت فقرة أو قصة أو صفة ازداد إعجابي بهذا الكاتب المميز الذي أشيعت عنه شائعة إحراق كتبه، وهي إن صحّت فإن فعلته في إحراق كتبه تعد تصرفاً طبيعياً لكاتب وجد نفسه في مفترق طرق. ووصل إلى نتيجة مؤلمة مفادها أن كل ما قام به من قبيل العبث، وتبرر عمق فهم التوحيدي لما قام به، فهو لم يصدق شأن الآخرين أن مهمته تنويرية وأنه يحمل رسالة، فقد وصل إلى نتيجة مؤلمة أن كل ما كتبه كان للحياة ومساعدته على شؤون الحياة لا غير، وأن هذه الكتب هي ملكية شخصية له ومن حقه أن يحرقها وأن يفعل بها ما يشاء! أبو حيان الذي عاش "الإمتاع والمؤانسة" وبحث في الصداقة والصديق، وتنقل في مختلف الآراء والمذاهب، فعرف الحكام والوزراء والنواب، وعاشر المتنفذين والموسرين، وتقرّب إليهم بعلمه ومجالستهم، ساعدوه على تكاليف الحياة، وهو ذكر فعلهم وخلدهم في كتبه ومقدماته، لكنه اكتشف في فترة متأخرة أن كل ما قام به وعاشه كان عبثاً، فلا أحد يلتفت إليه، ولا أحد يعنيه ما يكتبه وما يقدمه، ولم يعرف أحدهم أهمية الصداقة ورسالة الصديق، وطبيعة العلاقة القائمة بين صديقين أحدهما موسر والآخر مدقع، أو كلاهما موسر، أو كلاهما مدقع.. سألت نفسي وأنا أقرأ رسالته في الصداقة والصديق: هل ما كتبه أبو حيان كان حقاً أو مجاملة؟! ما نصيب نفسه من الأشياء التي كتبها وجادت بها قريحته؟! هل كان يحب صديقه الموسر حقاً أم إنه كان يحقد بسبب وضعه؟!
لو كان التوحيدي يتحدث بصدق لكان من النسق الأعلى بين الناس والمفكرين لأنه تعالى عن وضعه أمام من كان يقدم له الخدمات، ويساعده على العيش! ومن المؤكد أن التوحيدي كان من هذا النسق من الكتاب، لأن ما كتبه استطاع أن يصل وأن يقنع وأن يؤثر بعد ألف عام وأكثر..
ولكن لماذا أحرق كتبه؟ وهل أحرقها حقاً؟
هل أحرقها ليدفع عن نفسه الإدانة بالمجاملة؟ ولماذا كان مجاملاً؟ هل كان منافقاً ليصل إلى مبتغاه في الحياة الرغيدة؟ إن كان كذلك فالمشكلة كبرى والكتابة لا تقنع!
أغلب الظن أن التوحيدي عندما فعل ذلك كان في لحظة صدق مطلق مع الذات، وقد يطلق عليها الآخرون صفة لحظة اليأس، عندما وجد أن كل ما يقوم به ويكتبه يساعد في قضاء المجالس والليالي، لكن لا يترك أثراً! ربما رأى أن الكتابة شيء وأن الواقع شيء آخر نهائياً ويختلف اختلافاً تاماً عن الورق! ربما دفعته أنانية المبدع إلى أن يرى الناس الذين يتحدث لهم وعنهم دونه مستوى لذلك أراد أن يحرق كل شيء! كل شيء!
هبْ أن الحادثة ضميمة، وأن التوحيدي أحرق مصنفاته قبل وفاته، وهبْ أنها ليست من نسيج خيال كتبه تاريخ الأدب، وبغض النظر عن الواقع لهذه الفعلة، فقد يكون الدافع ذاتياً، وقد يكون متعلقاً بالآخر الذي كتب له وعنه رجاله، لكنني أقف عند حادثة أفترض وقوعها، ولا أفترض اختلاقها للتشويق أو النيل من أبي حيان، فقد تكون القصة مختلفة للانتقاص من التوحيدي وقدراته العقلية، وعلاقاته مع الناس والأصدقاء، كما هي قصة ادعاء المتنبي للنبوة..!
هبْ أن كل شيء صحيح، فما الدلالة التي يمكن أن يقف عندها ابن اليوم وقارئ كتبه اليوم؟
أحرقت كتب التوحيدي، أو أحرقها بنفسه وهي معه، ولم تكن هناك آليات الطباعة، فاليوم لو شاء كاتب أن يتبرأ من أدب أو كتب أو فكر فإنه ليس بإمكانه جمع آلاف النسخ لإتلافها بسبب انتشار الطباعة وتوزيع الكتب في المكتبات والبلدان والأمصار! والطريقة الوحيدة التي كانت موجودة في ذلك الزمن هي النسخ، فقد كان النسّاخ ينسخون الكتاب عدة نسخ ويتم تداولها، وعلى الرغم من أن التوحيدي أحرق كتبه فقد وصلتنا، وبنسخ عديدة، وهي على ضخامة حجمها تم التعامل معها باحترام ونسخت، وباءت محاولة التوحيدي بإحراق كتبه بالفشل، ووصلتنا كتبه وإهداءاته وعلاقاته!
لكن الذي يعنينا هنا أن الأدب الجيد يمكن أن يبذل الآخرون جهوداً مضنية في نقله ونسخه، فقد يكون النسّاخ غير محبين للتوحيدي، لكن تجارة نسخ كتبه كانت رابحة لذلك نسخوها ووصلت إلينا وستبقى دالة على عبقرية التوحيدي سواء كان متشائماً أم لا! إن كان محباً أم لا!
الحقيقة الوحيدة أن المتنبي بعقله لا يمكن أن يدّعي النبوة، وأن التوحيدي لم يحرق كتبه وأن الأدب الجيد والفكر النيّر تعجز عنه النيران.
لا الخراب ولا الدمار ولا هولاكو ولا دجلة ابتلع التوحيدي وآثاره، والنار كانت برداً وسلاماً على حروف من نور، والنور غلب النار.
اقلب الصفحات يا هذا واعرف كيف يمكن أن تكون صديقاً حقاً، واجلس مع التوحيدي الذي لن يقدم على إحراق كتبه مرة أخرى، لأنه ملهم وكلام الملهمين لا تلتهمه النار ولا تطوله الأحقاد.