شكيب الجابري من البناء على الورق إلى البناء الجبل!.. بقلم:عبد الرحمن الحلبي

شكيب الجابري من البناء على الورق إلى البناء الجبل!.. بقلم:عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٠ أكتوبر ٢٠١٥

رحل شكيب الجابري عن أربع روايات هي حصيلة عطائه الإبداعي كله على مدى عمره الأدبي الذي امتدّ إلى تسع وخمسين سنة. ففي عام 1937 أصدر عطاءه الروائي الختامي؛ والروايات الأربع هي على التوالي: (نَهم، قدرٌ يَلهو، قوس قزح، وداعاً يا أفاميا).
 كان شكيب الجابري عربياً فكراً وقلباً وأعصاباً وقد تبدّى هذا بوضوح في أعماله كلها، وهو-على خصوصيته العربية هذه- يمتاز بعقل شمولي رائده الإنسانية جميعاً.
 قدّم الجابري أحداث روايته الأولى بأسماء غير عربية، وفي مناخات وتقاليد أوروبية، قاصداً من ذلك إبلاغ رسالة يؤمن بها من دون أن يدع سبباً- للأقلام الزمّيتة - في ترصد رسالته والنيل منها.
 كتب الجابري (قدر يلهو) ثم (قوس قزح) ثم (وداعا يا أفاميا) بتسلسل زمني يرد على هذا النحو (1937-1938-1940-1960)، أي إنه صمت طويلاً بعد روايته الثالثة ليقدم لنا روايته الرابعة والأخيرة ليعود إلى التزامه الصمت عن العطاء الإبداعي حتى وفاته في عام 1996 رحمه الله.
 احتوت رواية الجابري الأولى على عدد من الرسائل تتوجه بها فتيات إلى الشخصية المحورية في الرواية (إيفان كوزاروف) تتحدث كل منهن عن دور هذا الـ (إيفان) في حياتها، وانعكاس هذا الدور عليها شخصياً، ولقد نوع المؤلف في رسم شخصيات الفتيات من حيث الدوافع والاندفاعات، والمكانة الاجتماعية لكل منهن. ومثلما كانت تسمية الشخصية المحورية أجنبية، كانت تسمية نسوة الرواية، أمثال: إيفلين، غريتل، هيرتاه، دورويتا، هيلدا كارد هتزنجر...
 ولطالما لاحظ نقادنا الأسبقون إمعان هذه الرواية في الاغتراب عن المناخات العربية، ولقد أسف بعضهم أيما أسف على هذا، حرصاً منهم على ما تميز به هذا النص من فن رفيع. في "قدر يلهو" رواية الجابري الثانية نجدنا هذه المرة أمام اسم عربي، هو (علاء) بيد أننا سنكون معه في بلد غربي، ألماني تحديداً، وبرلين منه على وجه الخصوص، في هذه المدينة يلتقي (علاء) بفتاة حكمت عليها ظروف التفكك الأسري بالتشرد، فيؤويها في بيته، ويطعمها ويسقيها، ثم تتنامى العلاقات الإنسانية في الرواية صعدا،ناقلة، عبرها، شهامة هذا العربي وفروسيته، لتعكسها على نفسية (إيلزا) تلك الفتاة التي غدت الآن- بعد التشرد- تقيم في مسكن وتتناول الطعام من دون مقابل. ثم إن (علاء) الذي صارت (ايلزا) بفضله تحب قومه وتراثه، يسعى لها في برلين عن عمل، فيوفق إليه، وهكذا تصبح (ايلزا) عاملة تتقاضى أجراً.
 في "قوس قزح"- الرواية الثالثة للجابري- نرى متابعة لحياة (ايلزا)، بل نجد صورة بانورامية لتلك الحياة عبر المذكرات.
 بعد هذه توقف الجابري عشرين سنة ليقدم لنا بعدها روايته الأخيرة "وداعاً يا أفاميا" التي أغرم بها حسام الخطيب فخصها بدراسة وافية عبر منظاره النقدي. ومنذ صدور هذه الرواية في عام 1960 حتى وفاته في عام 1996 لم نقرأ له، كما ألمحنا، أي نص روائي جديد. لكننا سنفاجأ في عام 1988 بما وصف بأنه "صياغة جديدة" لرواية "قدر يلهو"، فلماذا هذه الصياغة؟
 بل لماذا لم يكتب الجابري، بعد صمته الطويل، نصاً روائياً جديداً... لماذا أصر على معالجة أثر صار في ذاكرة تاريخ الأدب في سورية؟
 في جلسة جمعتني به مع عدد من الأدباء، وجهت إليه هذا السؤال وأنا أضمر مثلاً شعبياً يقول: "التاجر المفلس يبحث في دفاتره العتيقة"، فانتبه الجابري إلى مارميت، وقد يكون أحس بما أضمرت، فاقترح أن نرافقه بجولة إلى "الكوكو" فكان منشأة معمارية استقرت في أعلى قمة في جبل يشرف على الزبداني وبلودان، وهي من تصوره وتصميمه وإشرافه، وإذا نحن أمام عطاء مبدع يختصر الرواية والشعر ويتسامى في التشكيل ويتهيأ للخلود، وإذا بي أنسى السؤال وألوذ بالصمت!.