عبد السلام العجيلي.. الموقف. بقلم: د. إسماعيل مروة

عبد السلام العجيلي.. الموقف. بقلم: د. إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الاثنين، ١٩ أكتوبر ٢٠١٥

لا يذهب من الخاطر صديقي الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي، سنوات مرت وأنا أحتفظ بالتفاصيل الصغيرة بعد رحيله، وهو الذي أوصى بأن تكون جنازته شعبية غير رسمية، وأمضى أيامه الأخيرة في محبوبته دمشق، ليختم رحلته في أحضان أمه الرقة التي أعطته فأعطاها، واختارته صوتها، فاختارها حتى نهاية رحلته.. بالأمس وجدتني مشدوداً إلى رف في مكتبتي عليه مؤلفات الدكتور العجيلي، وأغلبها يحمل توقيعه وعبارته المفضلة (واسلم للمخلص..).. ومن جديد استعرضت كتابه (أيام السياسة) الذي كتب الجزء الثاني منه مع عبارة الجزء الثاني لجزء أول لم يكتب، ولكن القدر شاء، وعبد السلام العجيلي أراد ألا تنتهي حياته قبل أن يكتب الجزء الأول.. وعندما سألته مرة لماذا قدمت الثاني على الأول، أجاب بتواضع العالم، لأن ذكريات الثاني أقرب إلى الذاكرة استحضرته، أما الأول فذكرياته باتت عميقة وتحتاج إلى تعب لأكون صادقاً، ولا أريد أن أكتب مذكرات غير دقيقة.. قلبت الكتاب بالقسمين الأول والثاني، ووجدتني أقف عند قضيتين أقدمهما بالترتيب التاريخي.
الأولى يتحدث فيها العجيلي عن مشاركته في حرب الإنقاذ في فلسطين، وقد كان نائباً، وفيها يسرد القصة بتمامها، ويعتب على عضو البرلمان وشريكه في الرحلة أكرم الحوراني، لأنه لم يذكر القصة بدقة، وهي أنه عندما عزما على المشاركة في جيش الإنقاذ، كان لابد لهما من استئذان رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي لأنهما عضوان في البرلمان، ويسرد التفاصيل، وكيف أن الرئيس حاول ثنيهما عن السفر لأنهما يشاركان في البرلمان، وحين وجد إصرارها ودعهما، وأعطاهما مغلفاً، وأعاده العجيلي إلى الرئيس شاكراً، وقد رأى فيه مالاً للاستعانة على الطريق، وعندما خرجا عاتبه الحوراني، فأجاب العجيلي، قد نستشهد ولا نحتاج المال، ولا يجوز أن نوقع على مال لأمر اخترناه.. تابعا رحلتهما إلى فلسطين في جيش الإنقاذ، وعادا بعد الخيبة، ليدون العجيلي بعيداً عن الأدلجة القصة الكاملة مثبتة بالصور التي التقطها بنفسه، وأخرج فيما بعد كتابه الوثيقة (جيش الإنقاذ) معتمداً عليها.. وكل سيرته لم تمنعه من قول كلمة صادقة، ولم يسلب أحداً حقه.
الثانية أن العجيلي تولى وزارة الخارجية بالإنابة، وفي المدة نفسها كان تعيين السفراء يتم، فاختار على الرغم من معارضة أحد السفراء الأدباء نزار قباني ليكون سفيراً في إسبانيا، تلبية لرغبة عرفها منه قبل أن تؤول إليه مهمة وزارة الخارجية، معتمداً على نجاح نزار الدبلوماسي، وفي الوقت نفسه يذكر العجيلي في أيام السياسة أن رئيس الوزراء أرسل له قريباً له لتعيينه سفيراً في إحدى الدول، والعجيلي يذكر الأسماء ويتابع بأنه لم يشأ أن يرفض أو يقبل، بل عمد إلى مقابلة المرشح لوظيفة سفير لسورية، وعند لقائه اكتشف العجيلي وفق مقاييسه العلمية أن الشخص لا يصلح لأن يكون سفيراً، فاعتذر لرئيس الوزراء، ولم تفلح الوساطات والضغوط في تعيينه، ولم يقابل قرار العجيلي إلا بالاحترام والتقدير، فهو لم يرفض لوجه الرفض، وإنما اعتذر لعدم وجود المؤهلات والمواصفات التي تسمح لهذا الشخص أن يكون سفيراً، ومرة أخرى يضع العجيلي هذه القصة ليظهر ردة الفعل، لا ليمارس بطولته على القارئ، بل ليشهد لرئيس الوزراء ورئيس الجمهورية بتقبل قراره هذا الذي بني على علمية مطلقة، ولم يدخل فيه أي اعتبار مصلحي أو جهوي..!
شهدت الكثير من المواقف للدكتور عبد السلام العجيلي، وكلها تتطابق مع هاتين القصتين، ولا يجوز لي أن أدونها لأنه لم يكتبها، وأكتفي بالحكايات التي أوردها في كتب، وهي في أعلى مراتب الصدقية، لأنه لم يعترض أحد عليها، وشهودها ما يزالون على قيد الحياة..
إنه رجل من ذاك الزمن، من ذاك الوطن الذي نتشهاه.