إعادة البناء.. بقلم: محسن الشيخ

إعادة البناء.. بقلم: محسن الشيخ

تحليل وآراء

الخميس، ٢٧ أغسطس ٢٠١٥

يبدو أن إنتاج الثمين في الحياة يحتاج إلى جهد جهيد، والغوص بعيداً قد يعقبه اكتشاف السر الدفين، لكن إعادة ترتيب مكونات المكتشف تحتاج إلى عقول نيرة وجرأة وزمن طويل.
لعل الأكثر تحديداً هو عملية إعادة البنية والبناء، حيث الأساس اختيار أحجار البناء وخلق التجانس والترابط في كل مدماك، ومراقبة ناتج العمل باستمرار لتصحيح أي ميل لأن تجاهله سيؤدي إلى انحراف فانهيار مع الزمان (الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية).
لنكن أكثر مباشرة في الكلام، فالمقصود البنية الفكرية العربية بعامة والسوري بخاصة فكراً، نظماً، ذهنية، قواعد، مسلمات، منطلقات، حتى يعود لدوره المشرق البناء.
قد يكون عرض مثال ميكانيكي أكثر واقعية في إيضاح صورة فكرة إعادة البناء وإظهار المنتج الأكثر ثباتاً هو ما يجري في الفرن العالي لإنتاج الجديد حيث:
إن أول عملية تتم فيه هي فصل الغضار عن فلزات الحديد من خلال تعريض المواد الأولية إلى تيارات مائية تزيل الغضار عن الفلز، ثم يتم نوع من الصهر الأولي كي ينفصل الخبث عن الحديد ويُطرح جانباً، ثم تتعرض الكتلة المتبقية إلى نوع من الطرق الشديد بمطرقة ضخمة لتتماسك وتتخلص من الهشاشة التي تنشأ من وجود فجوات هوائية، ثم تبدأ مرحلة جديدة من العمليات لنحصل على مختلف أنواع الحديد قاس، لين، مطاوع.. الخ، والتي يأتي في رأسها الفولاذ الذي يحتاج إلى نوع خاص من السقاية والاهتمام.
قد تكون عملية إعادة البناء بحاجة إلى مثل هذه العمليات الفيزيائية والكيميائية إذ لم يعد ممكناً الذي حصل في الوطن أن نبقي التراب والشوائب وفجوات الهواء والفاسد من الفلزات ونطلب معدناً (إنساناً) قاسياً يقاوم كل الإجهادات والتحديات.
وبما أن المعني في إعادة البناء هو الإنسان فلابد من إعادة دراسة مكوناته الثقافية والاجتماعية والتعليمية والروحية على وجه التحديد وعناصر ارتكاز بنائه الفكري، والعوامل الضاغطة والمحركة لعنصر ما بقوة دون الآخر، وفي عملية إعادة البناء يجب استخدام أداة قاسية هي المباشرة والوضوح والحجة والمنطق في تناولنا لنقاط ارتكاز تشكل أساس عقله ومخزون أفكاره، ثم يتم تفريغ الذاكرة من حمولات بالية ثقيلة، وتوضع تحت المجهر منظومات ومسلمات وتابوهات يعتقد البعض أنها مقدسة وممنوع الاقتراب منها، ثم يسحب من تلك الذاكرة إلى قدر وتبعاً لشكل البناء المتشابه ونبقى على المحكم من خلال المقارنة بين النص المتداول مع المنطق والكتاب كي نحرر عقلنا بتأن ويعود إلى حالة الهدوء والصفاء بعيداً عما لحق به من المتشابهات.
وحتى يعاد للإسلام بريقه ودوره لابد لنا من امتلاك الجرأة والصراحة والجهد الجبار لنضع يدنا على الآلة الضخمة التي عملت على تحريفه عن مواقعه الحقيقية ممتلكين طاقة ورصيداً يمنع اقتراب حالة اليأس والضعف في مواجهة منظومة التكفير التي تعتمد على قوى ومؤسسات عالمية وماسونية.
لذلك فإن إعادة تكوين بنية العقل- فيما يتعلق بالجانب الروحي- ترتبط ببنية الخطاب، وبنية الخطاب ترتبط بالمادة الأساس التي يعتمدها الدعاة على اختلاف مستوياتهم، إذ لا يكفي أن يتقن الخطباء اللغة العربية بالرغم من أهميتها، وأن يحفظوا القرآن والسنة وفن الخطابة بالرغم من أنها قاعدة الانطلاق، بل يجب أن يكونوا قادرين على نقل مضامينه الحضارية للناس في خضم صراع حضاري أعلن عتاة الغرب بأن العدو الأساس بعد سقوط الشيوعية هو الإسلام، ويكفي التذكير بكلام هنري كيسنجر حيث قال: (علينا أن نعمل على ضرب الإسلام بعضه ببعض ولا نترك لأتباعه أي فرصة هدوء لالتقاط أنفاسهم، معتمدين على فتنة تعشش في عقول أهل والسنة والشيعة، وفي داخل المذهب الواحد)، وكلام برنار لويس حول ضرورة تمزيق العرب والمسلمين إلى ثلاث وسبعين دولة- هل اعتمد على حديث الفرقة الناجية؟- حيث يقول: (إن العرب والمسلمين قوم فاسدون ومفسدون وفوضويون في كل شيء بحياتهم، ومحال تحضرهم، وإذا تركوا لأنفسهم، فسيفاجئون العالم بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات ومعالمها والحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، لأنها جذر الإرهاب).
وهنا نقطة قد تكون من الأهمية بمكان لأنها تبقي بنية التغيير في الخطاب سديمية عائمة يلفها التنظير والوعظ والرياء ما دام البعض من الدعاة ورجال الدين يكفرون طوائف مسلمة بأكملها على أساس حديث الفرقة الناجية (الضعيف) والذي وضع لتهديم وحدة المسلمين والمؤمنين بالله، حديث كان منطلق التكفير الذي قاد إلى التفجير.
نحن بحاجة إلى عقول دفاقة علماً وجرأة ومعرفة، نحتاج إلى حوار جريء وعلني هادئ ومتين يقوده جمهرة من المتنورين من علماء دين رحماء بالدين والمسلمين لأن مستقبلنا، إن لم نتحرك ونواجههم فكرياً، فسيصنعه بغاة طغاة أحفاد خوارج ذاك الزمان.
لنبدأ بدراسة وتصحيح فكر ابن تيمية كونه نقطة ارتكاز الفكر الوهابي، الذي أدمى بسلوكه بلاد العرب والمسلمين، إن كان بالمستطاع من خلال عقد مؤتمر لعلماء بلاد الشام بالتعاون مع الأزهر الشريف والنجف الأشرف لعلها تكون نافذة حوار وشمعة تضيء.