أيام لها تاريخ..تركيا وقضية لواء إسكندرون.. بقلم: يوسف مريش

أيام لها تاريخ..تركيا وقضية لواء إسكندرون.. بقلم: يوسف مريش

تحليل وآراء

الاثنين، ١٥ يونيو ٢٠١٥

بدأ التفكير بمسألة الإسكندرون منذ تشرين الثاني 1915 أي بعد شهر من اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث أصبحت مدينة الاسكندرون محور صراع غريب، ودارت حولها صراعات في الكواليس وتحالفات، وتحالفات مضادة، واتخذت المسألة طابعها الجدي. حينما بات على الحلفاء أن يفكروا في إخلاء منطقة المضائق من الدردنيل، وأخذ الإنكليز يستعيدون خطة قديمة لهم تقوم على مهاجمة الإسكندرون واحتلالها، وذلك للحد من قدرة القوات المعادية من التدفق نحو مصر، إلا أن بعض القادة العسكريين الإنكليز اعترض على ذلك بحجة الخطر الداهم من الغواصات الألمانية هناك.
وتبين في النهاية، أن سبب هذا الموقف هو رغبة الساسة في لندن إقامة تحالف سياسي سري مع تركيا، تواجه به الحليف الفرنسي وتحد من تطلعات العرب الذين كان الشريف حسين يمثلهم حول هذه المسألة، وبدا واضحاً أنه في الوقت الذي كان فيه الحلفاء يرسمون الخطط ضد تركيا، كانت كل من لندن وباريس تلعبان أحدهما ضد الأخرى. ولاحقاً تبين أن الفرنسيين وصلوا بالفعل إلى نتيجة متقدمة في تفاوضهم الإيجابي مع العثمانيين. ففي 14 تشرين الثاني 1915 أعلنت فرنسا أنها لم تعد موافقة على شن ذلك الهجوم على الإسكندرون، وحينها أدرك العثمانيين أن الكلمة الأولى والأخيرة حول هذه المسألة، أصبحت بيد فرنسا، ومن هنا أخذ تبلور ذلك التقارب الخفي بين الفرنسيين والعثمانيين.
هذا التقارب الذي أدى إلى تطورات ما بعد الحرب وصولاً إلى سلخ لواء اسكندرون على يد الفرنسيين الذين أعطوه هدية متأخرة للعثمانيين.
وتبلغ مساحة لواء اسكندرون المعروف الآن (بولاية هاتاي التركية) 4805 أميال مربعة، ويقع على الساحل الشرقي للبحر المتوسط في الجزء الغربي مما يعرف بالسرج السوري وضمن الحدود الجغرافية لسورية المحددة بجبال طوروس شمالاً وصحراء سيناء جنوباً والبحر المتوسط غرباً والصحراء السورية شرقاً، ويقع في هذا اللواء ميناء الإسكندرون، وهو أفضل مرفأ طبيعي على الساحل السوري الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ومدينة أنطاكية القديمة ونهر العاصي بسهله الخصب والجزء الجنوبي من سلسلة جبال الأمانوس.
وفي سنة 1916 احتل العثمانيون لواء اسكندرون السوري وبقي جزءاً من إمبراطوريتهم حتى عام 1918.
بالإضافة إلى ذلك فإن الغزاة البيزنطيين والعثمانيين، لم يضعوا ضمن حدود إمبراطورياتهم منطقة الإسكندرون وأنطاكية فقط، بل ضموا سورية الجغرافية بأكملها، وبكلمة أخرى فإن التاريخ السياسي للمنطقة كان متصلاً بشكل وثيق بمصير وتاريخ سورية الجغرافية كلها، ويمكننا القول إن تاريخ الإسكندرون وأنطاكية يمثل بشكل مصغر تاريخ سورية.
وحتى أيام السيطرة العثمانية، وإلى أن انهارت الإمبراطورية في عام 1918 كانت المنطقة تشكل جزءاً من ولاية حلب من الناحية الإدارية، حيث كان سنجق حلب يضم أقضية حلب وعنتاب وكلس والإسكندرون وإدلب وحارم وجسر الشغور والمعرة والباب وجبول وبيلان وجبل سمعان ومنبج والرقة.
أما أنطاكية التي تقع على شاطئ نهر العاصي، التي كانت من أكبر مدن اللواء وأكثرها غنى حتى الستينيات من هذا القرن، والتي كانت تعتبر خلال الثلاثينيات من أنزه مدن الشام وأعرقها قدماً في العمران والتقدم. حيث توجد في مختلف المدينة جوامع عديدة معظمها يعود إلى أواخر عهد الدولة العثمانية. وربما كان أقدمها وأهمها جامع (حبيب النجار) وهو جامع تاريخي ضخم فيه الكثير من الأبنية الملحقة والأقبية والأضرحة ذات التاريخ المسجل، ويعتقد أن هذا الجامع بني في مكان الكنيسة المثمنة (المذهبة) التي اشتهرت بعد انتصار الدعوة المسيحية في أنطاكية في القرن الرابع الميلادي.
وفي أنطاكية كنائس مهمة جداً لمختلف الطوائف المسيحية، أهمها وأقدمها كنيسة القديس بطرس.
وكنيسة الروم الأرثوذكس، التي كانت في الأربعينيات من أكبر كنائس الشرق العربي، وتولى مقام البطريركية في دمشق بناءها في عام 1875 بعد الزلزال المعروف (بالهزة الكبرى) الذي هدم الكنيسة الصغرى التي كانت قائمة قبلها منذ عهد إبراهيم باشا. ويقال إن ثمة معونة صغيرة قدمت من قيصر روسيا (نيقولا الثاني) ساهمت في البناء. أما بوابتها الكبيرة فشيدها (البطريرك ملانيوس) في أثناء زيارته إلى أنطاكية عام 1900 وتأتي أهمية هذه الكنيسة بأنها تضم مجموعة مهمة من الأبنية والدوائر والمدارس والمكتبات التي خرجت أجيالاً من المثقفين العرب من مختلف الطوائف، وقد فتح قسيسها الجليل المرحوم (الخوري نيقولا) جد الزعيم العربي اللوائي (صبحي زخور) أمين سر عصبة العمل القومي في أنطاكية ورئيس تحرير جريدة العروبة. أبواب الكنيسة يوم الجمعة 12/1/1937 للمصلين المسلمين العرب لإقامة صلاة الجمعة عندما أقفلت السلطات التركية أبواب جامع أنطاكية الكبير في وجوههم، وقد تناقلت وكالات الأنباء العالمية ومحطات الإذاعات هذا الخبر النادر المثال، كدلالة على انعدام التعصب بين الطوائف في أنطاكية.
وفي نهاية العام 1918 كانت سورية بأكملها قد حررت من القوات العثمانية والألمانية، وأصبحت عملياً محتله من الجيش البريطاني، وعلى الرغم من الضمانات البريطانية لاستقلال العرب.
فقد أعطت اتفاقية (سايكس- بيكو) فرنسا مناطق (مرسين والاسكندرون والأجزاء السورية الواقعة غربي دمشق وحمص وحماة وحلب) وفي 3 تشرين الأول عام 1918 وصل الأمير فيصل إلى دمشق منتصراً ورفع العلم العربي، وفي السادس والعشرين من تشرين الأول 1918 دخلت قوات المشاة العربية وقوة الفرسان البريطانية حلب سوية، واحتلت القوات العربية أنطاكية حيث أعلن (إبراهيم هنانو) تأسيس حكومة (الشريف حسين) ثم احتلت بيلان وتقدمت نحو الإسكندرون.
وهنا ارتفع العلم العربي ليس فقط على المناطق التي خصصتها الاتفاقية الإنكليزية- الفرنسية بل على بيروت وطرابلس واللاذقية وأقضية أنطاكية وحارم والاسكندرون أيضاً.
حيث وصلت القوات الفرنسية إلى الإسكندرون في 12 تشرين الثاني عام 1918، ووجدت موظفي الشريف حسين يسيطرون على منطقة أنطاكية.
فتقدمت هذه القوات في 7 كانون الأول عام 1918 لاحتلال أنطاكية بموافقة الجنرال الإنكليزي (اللنبي) الذي أصدر أوامره (للركابي) بانسحاب جميع القوات العربية فوراً من المنطقة ورضوخاً عند هذه الأوامر الصارمة، غادر المنطقة آخر موظفي الشريف حسين بمن فيهم (إبراهيم هنانو وأدهم بيك) في شباط 1919 وبذلك انتهت السيطرة العربية على منطقة الاسكندرون وأنطاكية.
في تشرين الثاني عام 1919 سلم الجنرال اللنبي بصورة رسمية إدارة سورية وكيليكيا للمندوب السامي الفرنسي (الجنرال غورو) وقسمت سورية إلى تقسيمات إدارية أربعة منها القسم الغربي ويشمل كل الساحل السوري بما فيها عكا والإسكندرون. والقسم الشمالي (كيليكا) تحت الإدارة الفرنسية.
وعندما عقد الحلفاء معاهدة الصلح مع الدولة العثمانية في 10 آب 1920 والتي سميت معاهدة (سيفر) تنازلت الدولة العثمانية عن منطقة الإسكندرون واقتطعت أراضي سورية واسعة، هي منطقة (كيليكيا وأحواض نهري سيحون وجيحون ومنحدرات المياه على سفوح جبال طوروس الجنوبية) أي بلاد (مرعش وديار بكر) وأيضاً اتفاقية أنقرة، التي وقعت عام 1921 بين سلطات الانتداب الفرنسي ومصطفى كمال أتاتورك التي تخلت فيها الأولى للأخير عن أراض سورية جديدة هي (عنتاب وكلس وأورفه وماردين وجزيرة ابن عمر) لكن هذه المعاهدة أثارت ثائرة بعض الأتراك من ذوي الاتجاه الطوراني فالتف أعضاء البرلمان العثماني حول أتاتورك. الذي قاد حركته في شرق الأناضول ورفض الاعتراف بمعاهدة (سيفر) ووضع (ميثاق المجلس الوطني الكبير) الذي أعلن بموجبه إعادة تكوين تركيا من جميع أجزاء الدولة العثمانية التي تسود فيها أغلبية تركية.
وفي 24 تموز 1923 عقد الحلفاء معاهدة الصلح مع حكومة تركيا الجديدة (لوزان) التي أقرت معاهدة (أنقرة) ومنذ ذلك الوقت أصبحت اتفاقية (أنقرة) من الأسباب الرئيسية التي تذرعت بها تركيا فيما بعد بمطالبتها بلواء الاسكندرون.
البحث يتبع