مع الكبرياء والشعر...عزيزة هارون من نسمات البحر إلى عواصف الشعر

مع الكبرياء والشعر...عزيزة هارون من نسمات البحر إلى عواصف الشعر

شاعرات وشعراء

الاثنين، ٨ ديسمبر ٢٠١٤

 يا لشعري بظله أتفيا من همومي وتنتشي أحزاني سله عني أفجر اللحن من جدّ ي وأعطى الحياة من حرماني
 
الأصوات الشعرية النسائية قليلة نوعاً ما إذا ما قيست بعدد الأصوات الشعرية عموماً، والتي يمثل الشعراء الرجال النسبة الغالبة فيها، وقد ظهر أثر هذه القلة في الدراسات النقدية، وفي مصطلحات النقاد منذ القدم، فظهر مصطلح الفحولة الشعرية، والشاعر الفحل، وما شابه ذلك من المصطلحات، حتى إن بعض الشعراء كان يفاخر بأن شيطانه الشعري ذكر..! وبقيت المرأة عموماً الملهم الشعري للشعراء، الموضوع الشعري المفضل في الشعر نسبياً وتشبيباً وغزلاً، فهل يقتصر الأمر على المرأة في أن تكون موضوعاً شعرياً؟ أليس من حقها أن تعبر عن أحاسيسها تجاه الحياة والشريك.
ما من شيء يمنع المرأة من أن تؤدي دورها الشعري، ومن أن تأخذ نصيبها الشعري، فقد هلل الشعراء الرجال للخنساء وليلى الأخيلية، وولادة ومي وغيرهن، ولكن خصوصية المرأة، ورغبتها في أن تبقى مشاعرها دفينة صدرها أبعدت المرأة عن البوح والكتابة، وهذا ليس في المستوى العربي فقط، بل على المستوى العالمي.
يجنح النقاد عادة والقراء إلى إسباغ صفة الذاتية على الأدب شعراً ونثراً، فما من نص إلا ويبدأ قارئه بتطبيقه على كاتبه سواء كان رجلاً أم امرأة.
والمرأة الأديبة شاعرة وناثرة يجب أن تتمتع بشخصية مختلفة نوعاً ما، من حيث الحياة الأسرية والاجتماعية والحياتية، وهذا ما تحقق نوعاً ما عند الشاعرة عزيزة هارون.
ولدت الشاعرة عام 1923 في اللاذقية، فامتزجت روحها برذاذ البحر، وأخذت منه ثورته وهدوءه وحنانه، منحت نفسها لأمواجه فأعطاها مواصفاته في السعة والرحابة والانطلاق في مدى لا يدرك.
في تلك المرحلة المبكرة استطاعت عزيزة هارون أن تتميز، فالتحقت بالمدارس في محافظتها، فدرست حتى أنجزت الثانوية العامة، ولأن الجامعات كانت محدودة لم تستطع عزيزة أن تلتحق بجامعة دمشق الوحيدة آنذاك، فكان الكتاب جامعتها ومرجعيتها وصديقها وأستاذها، فعكفت على دواوين الشعراء تأخذ منها، وتحفظ وتتأثر وتخزن في ذاكرتها النقية حياتها مع الدواوين والمصادر العربية القديمة لم تذهب عبثاً، وكانت بدوافع ذاتيه ترغب في أن تصهر ذاتها في الأدب، وأن تستوعب كل ما تقوم بقراءته، وهذا ما جعل موهبتها الشعرية تتفجر في وقت مبكر، فنظمت الشعر، واختارت لذاتها مايلائم روحها وطبيعتها الأنثوية والانسانية والثقافية.
يغلب على شعرها الطابع الرومانسي والوجداني، وكانت وحدها اتجاهاً شعرياً، ولم تغب هموم الوطن والأمة عن شعرها فأولت الجانب الوطني والقومي عناية خاصة،  وساعد على ذلك أو شجعه انخراط عزيزة هارون في الحياة العامة بعد أن أصبحت موظفة في وزارة الاعلام السورية لتساعد نفسها على الحياة.
بدأت الشاعرة نشر شعرها في الأربعينيات من القرن العشرين، ونشرت شعرها في كبريات الدوريات والمجلات السورية والعربية مثل: الصباح، التمدن الاسلامي، أصداء، الآداب، الأديب، وكانت لها مشاركات مذكورة في اللقاءات والمهرجانات الشعرية.
زاوجت في تجربتها الشعرية بين الشعر العربي القديم على النهج التقليدي وزناً وقافية، ولم تكن بعيدة عن الشعر الحديث، فجربت حظ قصيدتها، وكانت شاعرة متفوقة لكنها لم تحظ بالعناية التي تستحق دراسة ونشراً، ومن الغريب ألا تهرع مؤسسة ثقافية سورية لنشر أعمالها وتوزيعها لتعمم هذا الاسم اللامع الذي كان متفاعلاً مع الحياة السورية ثقافياً وشعرياً واعلامياً، وما نشر من ديوان عزيزة هارون يكاد يكون مجهولاً وبحاجة إلى ترميم ونشر واسع، فمن واجب الشاعرة علينا أن نبقيها في اللوحة الشعرية السورية الفاعلة.
توفيت الشاعرة عزيزة هارون وحيدة في أحد مشافي دمشق بعد حياة حافلة بالشعر، غنية بالخيبات على الصعيد الحياتي والروحي والأمومي والعاطفي.
ومن الغريب أن يقوم النقاد والكتبة بحرمانها من ذاتها حتى عندما تكون موضوعاً للشعر، فقد كتب احدهم: وقيل إن أحد الشعراء الكبار نظم 1957 في الشاعرة عزيزة هارون قصيدة حب تحت عنوان: «اللهب القدسي». قال فيها:
مدله فيك مافجر ونجمته
موله فيك ما قيس وليلاه
سكبت قلبك في وجدانه فرأت
يا عز ما شئت لا ما شاء عيناه
هنا ينتقل الكاتب إلى شيء آخر وتنتهي الحكاية، فاللهب القدسي لشاعر سورية الكبير بدوي الجبل، فهل يصح أن يغفل مثل هذا الشاعر وعن أبيات رائعته: «اللهب القدسي» وماذا يضير الأديب إن أحب إلى أن يرى بعيني من يحب؟ وربما كانت هذه القصيدة، وقصة الحب إن وجدت من الزوايا المضيئة في وجدان شاعر كبير، وشاعرة استطاعت أن تحقق حضورها الشعري والشخصي عند قامة كالبدوي!.
ومن المفترض أن يتحلى ناقدنا ومؤرخنا بالعلمية فمن هو ذاك الذي يجرؤ أن ينفي تهمة الحب عن المبدع؟ بل السؤال الأهم هل يمكن للإبداع أن يكون ابداعاً إن لم يكن قائماً على الحب أساساً؟.
وها هو الدكتور عبد السلام العجيلي الأديب الكبير وصديق الشاعرة وصديق البدوي في الوقت ذاته يقدم شهادة على تصالح الشاعرة مع ذاتها ومع المحيط بها، ويرى أن كل ما مرت به الشاعرة لم يجعلها نادبة ناقمة. إن الآلام التي تمرست بها الشاعرة عزيزة هارون، تحولت بفضل موهبتها إلى عناصر خلق وإبداع، فحرمانها من الولد- على الرغم من زيجاتها الثلاث- كان هو الباعث على غنائها للأطفال في أشعارها، لا غناء بكائياً تندب فيه حظها وحسرتها من الحرمان، بل هو على العكس من ذلك كان أناشيد محبة وعطف وإشفاق.
أما آن الأوان لإعادة الاعتبار إلى شاعرة من هذا المستوى، وخاصة في ظل بهوت الحضور الشعري عامة، والشعر الأنثوي بشكل خاص، في مقطوعة تصور الشاعرة عزلتها وإن كان أقرب إلى الطفولة:
لقد خفت من الذئب
تسلقت على نخلة
كتمت من الأسى رعبي
وكنت ندية طفلة
فصوّح زهر أيامي
جنون الخوف والعزلة
تعال إلي بعد اليأس
بعد الجور والظلمة
فروحي لم تزل روحي
وأني لم أزل نجمة
أداعب شعري الحاني
تداعب شعري النسمة
ومن شعرها القومي ترثي واقع الأمة:
قلبي يرف على الشعاع الهادي
يا نعم ما فعل الهوى بفؤادي
أنشدت شعري للحياة وسحرها
وسمعت همس الروح في إنشادي
وأحب أغنية لقلبي في الهوى
أغنية أمجادها أمجادي
تختال من زهو برفعة يعرب
وتهيم سكرى في ربوع الضاد
وتقول لي والعرب شتت شملهم
كيد الدخيل وثورة الأحقاد
الراية الكبرى تهل على الحمى
لا تحزني إنا على ميعاد
بغداد يا بلد السلام ترفعي
أين السلام على ذرا بغداد؟!
ومن رقيق شعرها الذي تعبر فيه عن الحب ورأيها فيه، قصيدة قالتها في ابن زيدون، وكأنها تسترجع من خلالها ابن زيدون وولادة، وما مر بها وعجزت عن البوح:
تألق الشعر في أبهى معانيه
وراح من نبعه السلسال يرويه
وافتن فيه الهوى قيثارة عجباً
تهدي إلى الشعر ما يحيي أمانيه
لم يشهد الفجر أندى من غمائمه
لم يعرف النجم أحلى من لياليه
رنا فهلَّ على أجوائه قمر
كأنما السحر معنى من معانيه
ينساب في اللحن ألحاناً ملونة
يكاد من سحره يغوي أغانيه
فازينت بالنعيم العذب أيكته
ورف كل جناح رفة التيه
لولا الهوى لم يكن حسن يدلهنا
ولم يكن للسنا فجر ينديه
ألا نشتم رائحة الهوى البدوي في هذه الأبيات؟
ألا نجد الإعجاب بألفاظ البدوي ذاتها واستحضارها؟
عزيزة هارون حكاية شعر وشاعرة، لا يكفي أن نأخذ أغنياتها للطفولة لتكون مطلة على استحياء في مناهج، وربما غابت، إنها شاعرة تستحق منا أن نقف عندها، لندرس ظاهرة شعرية ومدرسة لكفاح المرأة بحثاً عن استقلال مادي يجعل قدرتها على الاستقلالية بشخصيتها أكثر فعالية.
بانتظار ديوانها في طبعة جديدة تكرمها بعد ثلاثين عاماً على رحيلها وحيدة في أحد مشافي دمشق، وكم تحولت مشافينا على أهميتها إلى مستقر لرحيل غرباء الأرواح من محمد البزم إلى عزيزة هارون وكم من راحل لم يسمع به أحد؟!