الشعر يعيد إنتاج الأساطير بلغة معاصرة..ناهدة عقل: لا يلغي صوتٌ شعري صوتاً آخر

الشعر يعيد إنتاج الأساطير بلغة معاصرة..ناهدة عقل: لا يلغي صوتٌ شعري صوتاً آخر

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ٢٨ أكتوبر ٢٠١٤

تبدو تجربة الشاعرة السورية ناهدة عقل "ميالة أكثر نحو العودة بالنص الشعري الجديد إلى مناخات الأسطورة والانتصار لوحدة الموضوع في كتبها الشعرية كما في ديوانها "ليل البتول"، لكنها في كتابها الجديد "في غياب الرب" تراهن على كتابة القصيدة كفاصلة صوتية في جسم الصمت - بياض الورقة، فهي من الشاعرات السوريات اللواتي كتبن للنقد كما في كتابها الجديد "مفاتيح الغيم" مثلما جاهرن بولعهن بكتابة النص الشعري المتمرد على القوالب القديمة.
معها الحوار الآتي:
• "ليل البتول" هي مجموعتكِ الشعرية الأولى التي كتب لها الشاعر نزيه أبو عفش مقدمة طويلة، فيما احتفى الكتاب ذاته بلوحة الغلاف للشاعر عفش أيضاً. هل تعتقدين أن الشاعر لا يزال يحتاج إلى من يقدمه؟
ـ بالتأكيد لا يجدر أن تكون هناك وصاية أبوية على الشعر كما على غيره من الفنون والأعمال الإبداعية؛ فهي متمرّدة بطبيعتها حتى على أدواتها وقواعدها ذاتها. أمّا تقديم عمل إبداعي أول من قبل مبدع من الدرجة الأولى؛ فهو بمثابة وثيقة نقدية تُلزم أكثر ما تلزم في ظل غياب حركة نقدية فاعلة في العالم العربي. لقد طلبتُ من الشاعر نزيه أبو عفش رأيه في مجموعتي فأعجبته. ولو حصل العكس لنشرتُ رأيه السلبي أيضاً؛ فبغضِّ النظر عن مكانته وشهرته، أثق برأيه أيما ثقة ما دام من القلة القليلة التي أثّر نتاجها بي من الشعراء العرب.
أسطورة
• في كتابيكِ الشعريين هناك احتفاء منكِ أنت الشاعرة الشابة بشاعرين هما نزيه أبو عفش وجوزف حرب اللذين تنعتيهما في مقدمة "ليل البتول" بلقب "أجمل آلهة الشعر". برأيكِ هل تعتبرين أن للشعر آلهة؟
ـ الآلهة هي القادرة على فعل ما لا يقدر عليه بشر عاديون. وفق هذه الرؤية يغدو كل مبدع حقيقي إلهاً. وليس ذنب ذائقتي أني لم أجد بين (آلهة الشعر) العربي من هم أرفع قيمة جمالية ومعرفية من هذين الشاعرين. أنا أقدّم هويّتي، المراجع التي أثّرت في كتابتي الشعرية، قبل أن أفكّر بتقديم إطراء لأناس أحبّهم. فكليهما في نهاية المطاف بغنى عن تكراري لاسميهما اللامعين عن جدارة واستحقاق.
• حمل ديوانكِ الأخير عنوان "في غياب الرب" مثلما حمل ديوانكِ الأول عنوان "ليل البتول". ألا تلاحظين معي هذا الانسياق وراء عتبات لقراءة نص ذي دلالة دينية؛ في حين يغلب على نصوصكِ طابع تراجيدي وجودي؟ كيف تفسرين هذا التناقض؟
ـ لا أرى أي تناقض هنا. تنبع التراجيديا عن صراع مع قوى جبارة تهزم إرادة أشد البشر جبروتاً وعناداً وتعنّتاً بالصبر. مشكلة سيزيف وجلجامش ليست مع أعداء أرضيين محسوسين، بل مع قوى مجرّدة غير منظورة تُرمّز بصيغٍ شتى على نحو (ربّ ـ قدر ـ موت ـ صخرة). لا أعتقد أن مثل هذين النصين يتضمنان، إلا فيما ندر رموزاً دينية، لأنها بالضرورة مُرجعة سلفاً إلى أصولها ومضامينها الأسطورية، وهذا ما لا أعتقد أنَّ ثمّة مهربٌ منه لأيّ نص شعري. أرى أنَّ ما فعله ويفعله الشعر لا يتعدّى إعادة إنتاج أساطير أصيلة بلغة وأدوات معاصرة.
• في قصيدة من قصائد "في غياب الرب"، جاءت بعنوان "حلمٌ بمحمود درويش"، تحلمين بأن الشاعر الفلسطيني زاركِ في الحلم وقبّلكِ على فمكِ؟ هل يمكننا فهم ذلك في سياق رثائكِ للشاعر الراحل أم ماذا؟
ـ ليست هذه القصيدة لرثاء محمود درويش ولا حتى لإحياء ذكراه؛ بغض النظر عن استحقاق شاعر جميل مثله لتكرار اسمه في غيابه؛ هي حلمٌ حقيقي كتبتُهُ بالأسلوب الشعبي لرواية الحلم (مع اعتبار لحاجز اللغة الفصحى هنا)، أمّا ما يصنعُ من الحلمِ قصيدةً برأيي فهو قابليته السريعة للإيحاء بمعنى فكري معرفي أو جمالي.
الصمت
• بعض نصوصكِ خاطفة ورشيقة وتدعو إلى.. هل تعتبرين الصمت - البياض - جزءاً من جسم القصيدة التي تكتبينها؟ ولماذا؟
ـ نعم. بالطبع. سبقَ وأخبرتُكَ أنَّ ما أحاول نقله هو صوتي البشري، والصمت جزءٌ طبيعي واقعي حقيقي من أيِّ صوتٍ بشري. ليتني أستطيعُ نقل تنويعاتهِ أيضاً، فبياض الصفحة أداةٌ قاصرةٌ ومتواضعة جداً لترميز لغة الصمت.
• قدمتِ دراسة نقدية شيقة بعنوان "مفاتيح الغيم - الماء في الصورة الشعرية لجوزف حرب - دار بيسان - بيروت"، حيث تقولين نقلاً عن باشلار إن الماء يأتي كمصدر للنقاء الأول؛ وهو ما جعل "الشاعر حرب يأتي بمفردات دينية مسيحية في نصوصه كبيئة عقائدية للشاعر"، لكنكِ أيضاً تحيلين ذلك إلى تفسيرها ببعد اجتماعي؟
ـ على نحوٍ نسبي، نعم. فلا اختلاف على وحدة المنبع، لكن الفارق الجوهري هنا هو فارق واقعي على مستوى الحياة والنص. الشاعر جوزف حرب قضى معظم طفولته في ديرٍ للراهبات؛ وعاش على تماسٍ مع طقوس ورموز المسيحية، وقد حاول والده أن يجعل منه راهباً. أمّا أنا فولِدتُ لأبوين غير متزمتين دينياً وبعيدين عن المشاركة في نشاطات ومظاهر الحياة الدينية. هذا إلى جانب الاختلاف في المنهجية بين الأرثوذكسية والمارونية كطائفتين، من حيث التشديد على التقيّد بالطقوس والتفاوت في القدرة على التأثير في الوسط الاجتماعي.. إلى غيرها. أيضاً يتجلّى هذا الفارق بوضوح إذا ما شئتَ المقارنة بين النصّين. ثمّةَ تفاوت ملحوظ في كمِّ المفردات "الدينية" وطريقة توظيفها في النص.
• في نصٍ بعنوان "جلجامش بالنسخة الأصلية" من مجموعتكِ "في غياب الربّ" تعيدين الاشتغال على التناص مع الملحمي والأسطوري، مظهرة حساسيتكِ إزاء الحرب السورية؟
ـ بغض النظر عن ملاحظة أن موضوع (الحرب) لا يحتلُّ حيزاً كبيراً من مساحة "في غياب الرب"؛ أوافقكَ أنَّ النفَسَ الملحمي تصاعدَ في النصوص التي كتبتها إثر غياب الشاعر جوزف حرب. ما أراهُ حالةً طبيعية نابعة من سياقِ أسلوب النص الذي أكتب. فحين يشتدُّ وقعُ الألم يعلو الصراخ البدائي.
• هل تعتقدين أن جيل الألفية الثالثة من الشعراء السوريين اليوم قادر على إيجاد أساليبه الفنية بعيداً عن مصادرة الأجيال السابقة له؟
ـ مبدئياً لا أعتقد بقدرة جيل على (مصادرة) صوت جيلٍ لاحق. ليس بمقدور صوتٍ شعري أن يلغي صوتاً شعرياً آخر إنْ ضاهاه قدرةً وقيمة. وإذ استطاع جيل من شعراء الستينيات والسبعينيات أن يستقطب أسماع الناس فيما لم يبرز من هذا الجيل أحد، فهي مشكلته الخاصة، يجدر به البحث عن مسبباتها وطرق معالجتها، عوضاً عن الاستكانة لتبريرات غير عقلانية وغير عادلة.
هذا موضوع شائك وأتمنى ألا أخيّبَ ظنّكَ إذْ أعترفُ بأنّه بالكادِ يعنيني. لستُ مع قطيعة السابق أو اتباعه؛ كما لستُ مع التبعية للحديث المتطوّر أو القطيعة معها. الشعر هاربٌ بالأصل من قيود الزمن، فلا أرى جدوى من الثرثرة النقدية حول إلغاء الماضي شرطاً لبروز الحاضر. أما الأساليب الفنية فهي تسمية فضفاضة لا تنحصر بطابع العصر وحده. أعتقد أن الشاعر كائنٌ مغترب في الأزمنة والأمكنة يلمُّ في طريقه سقطَ المتاع الذي تعنيهِ مما تفرزه وترميه تلك الأماكن و...الأزمنة.