نزار قباني شاعر قضايا المرأة

نزار قباني شاعر قضايا المرأة

شاعرات وشعراء

الاثنين، ١٨ نوفمبر ٢٠١٣

تدوسين أنت فللصبح نفس وللصخر قلب ترى يا جميلة لولاك هل ضج بالورد درب؟
لم يأخذ شاعر ما أخذه نزار قباني من جدل في قضايا المرأة التي تناولها في شعره من منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، وإلى خواتيم القرن العشرين مع رحيله وطي الصفحة المضيئة من شعرنا العربي الحديث، ولد نزار في مئذنة الشحم عام 1923 لوالد من التجار الوطنيين، ولأسرة متعددة الأبناء، متميزة في تربيتها وفي التحصيل العلمي، فهذه الأسرة أنجبت نزاراً، كما أنجبت الأديب والإعلامي والسفير صباح قباني، والأديبة رنا قباني، وكل منهم ترك أثراً دالاً على تربية هذه الأسرة، وحسن احتواء الموهبة، وإفراد جناحي الإبداع والحرية لمن أنجبتهم، فنزار قبل أي شيء هو ابن بيئته المتنورة ونتاجها، وهذا ما أتاح له أن يتفرد فيما بعد دراسة وأدباً وحياة... ومن هذه البيئة التي منحته خرج نزار ليرسم ملامح مجتمع نحبه ونحترمه ونقدره مهما كانت انتماءاتنا أو ميولنا، خرج نزار محباً لمجتمعه وأهله، وليس كما يحلو لبعضهم تصويره النقدي لمجتمعه، والحب هو الذي جعل نزاراً واصفاً ومنتقداً ومحباً، وقد رأى نزار مبكراً أن علاج المجتمع الحقيقي وعلى الصعد كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتحرر هذا المجتمع، وبالتالي تحرر المرأة وتعلمها، وخيارها النابع من ذاتها قبل أن يكون نابعاً من أي شيء آخر، هذا الكلام مهم للغاية في إجراء الدراسة النقدية العلمية لنزار وشعره، فالحرية والاختيار للمرأة هي التي تجعلها مسؤولة مسؤولية تامة عن أفعالها، ويؤهلها لمواجهة نتائج هذه الخيارات، ويهول المرء القارئ مقدار الأحكام النقدية القائمة على غير قراءة، والتي تنتقل مشافهة من شخص لآخر دون الالتفاف إلى الثروة الشعرية الكبرى التي تركها شاعرنا، صورة لمجتمعه، وتصوراً لما يمكن أن يكون عليه الحال مستقبلاً، والطريف المؤلم أن ما دعا إليه نزار قبل ستة عقود لم يعد ممكناً الآن، بل إن وضع مجتمعاتنا اليوم في مفهوم الحرية والإنسان تردى عن الوضع الذي جابهه شاعرنا بحسّه العميق والفطري المتجذر في إبداع الموهبة واشتعال الذات!
عدا عن الدراسات التي كتبت عن نزار علمية وغير علمية مثل ما كتبه إيليا الحاوي ومحمد المصري وخريستو نجم وسواهم، وعدا الدراسات والمختارات التي تاجرت باسم نزار وشعره على المستويات كافة، فإن الأحكام حول شعر نزار المجتمعي كما أراه، والذي وصف بأنه شعر المرأة، هذه الأحكام تنحصر في اتجاهين خطيرين، كلاهما يسيء للشاعر الكبير وتاريخه، وكلاهما يفهم شعر نزار فهماً خاطئاً، ويخرج نزار عن خطه وسيره:
- المتحررون جداً يرون أن نزاراً قزم المرأة، وجعلها مجرد جسد، ولم يعتن بفكرها!
- المتشددون يرون أن نزاراً أفسد المرأة وحياتها، وجعل جسدها مستباحاً!
هل تخرج الآراء عن هذين الخطين؟ ولكن إمعان النظر في شعر نزار، وليس في الأقوال المتواترة شفاهاً بين الناس يظهر قصور هذين الاتجاهين، ويبين أن أصحاب هذين الاتجاهين لم يقفوا عند شعر نزار على حقيقته، وإنما اكتفوا بالقراءة العجلي، وبالمعاني المباشرة هذا إن اطلعوا على شعره، ولكن القراءة المتمعنة في شعر نزار من البداية تظهر حقيقة أن الشاعر كان ثائراً وإصلاحياً في الوقت نفسه، لم ينحز إلى المرأة، ولم يقف ضدها، وإنما تعامل مع المجتمع تعاملاً ثورياً، ومع المرأة جزءاً من كينونة المجتمع، ومن اكتمال عناصر الثورة الفكرية أن تقوم على الوصف والانتقاد، ورسم معالم الطريق، وهذا ما أقدم عليه نزار، ودلائل مكانة نزار الفكرية والثورية كثيرة في شعره، ويكفي أن يقوم الدكتور منير العجلاني بالتقديم لديوانه الأول (قالت لي السمراء) وهو- أي العجلاني- محسوب على التيار الملتزم، فما قول من يرى أن نزاراً أباح جسدها؟ وكذلك فإن شهادة علي الطنطاوي ببراعته مع الاختلاف معه تظهر مكانته الفكرية قبل الشعرية. أما المتحررون الذين انتقدوه فما أظنهم فعلوا إلا من باب الغيرة والحسد، فهم الذين حملوا كما يزعمون لواء التجديد والحرية، ونفخوا أبواق الحرية الفكرية، لم يستطيعوا أن يحصلوا على ما حصل عليه نزار، فما وجدوا وسيلة للارتقاء إلا النهش من نزار ومحاولة النيل من شاعريته...!
نزار قباني هو دمشق الشام، وهو ثورتها على واقع مرفوض يريد الخلاص منه كما تريد، نزار هو إيمان الشام الفطري بالأشياء والعقائد، وهو خليط من القبول والرفض، قبول الصالح ورفض الفاسد، وهذا ما نلمسه في شعره الخاص بالمرأة، فهولم يقف مع المرأة ظالمة أو مظلومة، بل وقف معها ودافع عنها مظلومة، ووقف ضدها وحاربها وشنع عليها عندما كانت ظالمة وخاطئة، لذا هو صاحب قضايا وليس شاعر المرأة، هو المراقب المسجل لواقع يحياه ونحياه، ولكن يراه ولا نراه، ومن ثم يقوم بتشخيصه كما هو سواء كانت المرأة مظلومة أو ظالمة لنفسها أو لمجتمعها... كذلك كان نزار شاعراً إصلاحياً يريد لهذا المجتمع أن يصلح وأن يستنير وأن ينهض، فكان رائداً لم يسبق عصره كما يحلو لبعضهم أن يقول، وإنما عجز عصره ومجتمعه عن متابعة رؤاه وتطلعاته التي كانت استشرافاً ونبوءة ومعرفة حقة.
من أشعاره التي ينتقد المرأة انتقاداً قاسياً قوله لفتاة تركت محبوبها من أجل المال والغنى:
ويحك! في إصبعك المخملي
حملت جُمان الهوى الأول
قد تخجل اللبوة من صيدها
يوماً، فهل حاولت أن تخجلي؟
بائعتي بزائفات الحلى
بخاتم في طرف الأنمل
ويخاطب المرأة التي تجعل نفسها سلعة،وتحرم ابنها من حليبها الذي هو بحاجته وله:
أطعميه من ناهديك أطعميه
واسكبي أعكر الحليب بفيه
اتقي الله في رخام معرى
خشب المهد كاد أن يشتهيه
نشفت فورة الحليب بثدييك
طعاماً لزائر مشبوه
إن سقيت الزوار منه فقدماً
لعق الهر من دماء بنيه
وعندما تكون المرأة ضحية لا يتردد نزار بالدفاع عنها:
من أنا؟ إحدى خطاياكم أنا
نعجة في دمكم تغتسل
أشتهي الأسرة والطفل وأن
يحتويني مثل غيري منزل
ارجموني سددوا أحجاركم
كلكم يوم سقوطي بطل
يا قضاتي يا رماتي إنكم
إنكم أجبن من أن تعدلوا
لن تخيفوني ففي شرعتكم
ينصر الباغي ويرمى الأعزل
تسأل الأنثى إذا تزني وكم
مجرم دامي الزنا لا يسأل
وسرير واحد ضمهما
تسقط البنت ويحمى الرجل
وفي قصيدته (رسالة من سيدة حاقدة) يصور إحساس المرأة عندما تجد نفسها قد انتهت عند من أحبت:
لا تدخلي
وسددت في وجهي الطريق بمرفقيك
وزعمت لي.... أن الرفاق أتوا إليك
أهم الرفاق أتوا إليك؟... أم إن سيدة لديك
تحتل بعدي ساعديك؟
وصرخت محتدماً: قفي!
والريح تمضغ معطفي
والذل يكسو موقفي
لا تعتذر يا نذل... لا تتأسف
أنا لست آسفة عليك
لكن على قلبي الوفي.... قلبي الذي لم تعرف
إني آراها في جوار الموقد
أخذت هنالك مقعدي
في الركن ذات المقعد.... وأراك تمنحها يداً
مثلوجة ذات اليد
ولسوف تخبرها بما أخبرتني
وسترفع الكأس التي جرعتني
كأساً بها سممتني.... حتى إذا عادت إليك
لترود موعدها الهني
أخبرتها أن الرفاق أتوا إليك
وأضعت رونقها كما ضيعتني
ويقول حين تقص شعرها مخاطباً محبوبته بأن تتقمص شخصه وما يريد لتجيب:
صغيرتي إن عاتبوك يوماً
كيف قصصت شعرك الحريرا
وكيف حطمت إناء طيب
من بعدما ربيته شهورا
وكان مثل الصيف في بلادي
يوزع الظلال والعبيرا
قولي لهم: أنا قصصت شعري
لأن من أحبه يحبه قصيرا
حبيبتي يا ألف يا حبيبتي
حبي لعينيك أنا كبير
وسوف يبقى دائماً كبيرا
وحين يعودها في مرضها حاملاً زهوره يقول على لسانها:
وحين أكون مريضه..... وتحمل أزهارك الغاليه
صديقي إلي... وتجعل بين يديك يدي
يعود لي اللون والعافية
وتلتصق الشمس في وجنتيْ
وأبكي وأبكي بغير إراده
وأنت ترد غطائي علي
وتجعل رأسي فوق الوساده
تمنيت كل التمني
صديقي لو أني.... أظل أظل عليله
لتسأل عني.... لتحمل لي كل يوم
وروداً جميله
ومن رقيق شعره في الحب:
حفرت (أحبك) فوق عقيق السحر
حفرت حدود السماء
حفرت القدر... ألم تبصريها؟
على ورقات الزهر
على الجسر والنهر والمنحدر
على صدفات البحار
على قطرات المطر
ألم تلمحيها؟.... على كل غصن
وكل حصاة وكل حجر
كتبت على دفتر الشمس
أحلى خبر.... (أحبك جداً)
فليتك كنت قرأت الخبر
وعلى لسان المرأة وخيبتها يقول:
اذهب.... إذا يوماً مللت مني
واتهم الأقدار واتهمني
أما أنا فإني... سأكتفي بدمعتي وحزني
فالصمت كبرياء.... والحزن كبرياء
اذهب... إذا أتعبك البقاء
فالأرض فيها العطر والنساء
وعندما تريد أن تراني
وعندما تحتاج كالطفل إلى حناني
فعد إلى قلبي متى تشاء
فأنت في حياتي الهواء
وأنت عندي الأرض والسماء.
وهذا النص يبرز دعوة نزار الثورية والإصلاحية في قضايا المرأة، فلم يكن شاعر امرأة عادياً، بقدر ما كان شاعر قضية، بل قضايا، وها هي تتناول التربية وعلاقتها بشعور المرأة:
أيكفي أنني ابنته.... وأني من سلالته
أيطعمني أبي خبزاً؟.... أيغمرني بنعمته؟
كفرت أنا بمال أبي.... بلؤلئه وفضته
أبي لم ينتبه يوماً... إلى جسدي وثورته
أبي رجل أناني.... مريض في محبته
مريض في تعصبه.... مريض في تعنته
يثور إذا رأى صدري
تمادى في استدارته.... يثور إذا رأى رجلاً
يقرّب من حديقته
أبي لن يمنع التفاح من إكمال دورته
سيأتي ألف عصفور... ليسرق من حديقته
وأختم بثورته على الشرق وتقاليده تجاه المرأة:
ثوري! أحبك أن تثوري
ثوري على شرق السبايا.. والتكايا.. والبخور
ثوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبير
لا ترهبي أحداً فإن الشمس مقبرة النسور
ثوري على شرق يراك وليمة فوق السرير