العالم الافتراضي يقتحم واقعية المجتمعات.. الأجهزة الخادعة.. تشويش دائم على العلاقات الاجتماعية.. وانتهاك مبرمج لخصوصيات الناس!

العالم الافتراضي يقتحم واقعية المجتمعات.. الأجهزة الخادعة.. تشويش دائم على العلاقات الاجتماعية.. وانتهاك مبرمج لخصوصيات الناس!

شعوب وعادات

الجمعة، ٢٠ يناير ٢٠١٧

تفتح حاسوبك أو هاتفك الذكي، تغلق الأبواب على نفسك حتى ولو كنت بين جمع مهيب من الناس، وتسافر إلى عالم خاص، هو عالم افتراضي يأخذك تدريجياً عبر برمجياته الالكترونية المختلفة، وأدواته التقنية إلى حياة أخرى ربما تبدو لوهلة حياة مشابهة لتلك التي نحياها في الواقع، لكن الحقيقة مختلفة تماماً، تقارير وإحصائيات كثيرة تظهر يوماً بعد يوم، وتتحدث عن مجتمعات تزداد فيها العزلة، ويتحول شبابها وشاباتها إلى العيش في عوالم افتراضية تنمّي، بحسب دراسات نفسية كثيرة، صفات الأنانية، والغرور، وتعزيز الذات حين نشارك بأفضل ما لدينا مع الآخرين، لكن مقابل أن نستعبد مشاعرنا ونخضعها لأهوائنا حين نتظاهر أننا سعداء بخوض التجربة التي نمارسها أياً تكن فقط لإرضاء نزعة تنمّيها مواقع التواصل، وفي المجتمع السوري اليوم أمثلة كثيرة عن هذا الغزو المستمر للتقنيات الحديثة وبرمجياتها المختلفة التي ساهمت في فترة الأزمة بتعزيز حالة العزلة لدى المجتمع السوري عموماً، ولدى فئة الشباب بشكل خاص!.
كل في عالمه
يجتمع كل من قصي، ورائد، وعايدة، وهم طلاب في قسم اللغة الانكليزية بجامعة دمشق، بمقصف اللغات في جامعتهم، تجمعهم طاولة استدعيت إليها طلبات متنوعة من فنجانين شاي، وثالث قهوة، وبعض السندويشات، يبدو الثلاثة في حالة تواصل ظاهري كأصدقاء في الجامعة، ولكن يمكن لمن يراقبهم عن بعد ملاحظة أن الحديث بينهم لا يتجاوز بضع كلمات خلال أكثر من ربع ساعة، وفي الحقيقة قلة الكلام بينهم تعود لانشغال كل منهم بهاتفه الذكي، ومتابعة تحديث موقعه على شبكة التواصل الاجتماعي الأكثر شهرة فيسبوك، يجلس الأصدقاء، وينشغلون عن بعضهم بهواتفهم التي ربما يتواصلون بها مع أشخاص آخرين!.
عند الاقتراب منهم ومحاورتهم يجيب قصي بأنه اعتاد على أصدقائه، ويظن بأن الأحاديث المشتركة بينهم تأخذ طابع التكرار والاعتيادية والملل، لذلك لا يجد ضيراً في إلقاء نظرة على الجديد المستمر في صفحته الرئيسية، وفي المقابل يبدي كل من رائد وعايدة شعوراً مشتركاً بخطأ ما في التواصل الذي يحدث اليوم بين الأصدقاء، ويعتقدان أنه ربما يكون أمراً سلبياً انشغالهم عن بعضهم، وترك بعضهم للتواصل في العالم الافتراضي، لكن ورغم ذلك تختم عايدة بأنها لا تستطيع أن تمنع نفسها بين فترة وأخرى عن رؤية صفحتها الشخصية على فيسبوك حتى ولو كان هذا على حساب التواصل مع أصدقائها!.

دخلاء على الجلسة
في أمكنة أخرى يبدو رأي بعض من قابلناهم أكثر حدة في تقييم من ينشغلون بالتقنيات الحديثة كالهواتف أو غيرها عند مقابلتهم لأصدقاء واقعيين، يقول سامر سكر، وهو رجل أربعيني: إن أحد أكثر المشاهد التي تثير غيظه واستياءه أن يكون في لقاء مع أحدهم ويتركه وينشغل عنه بتصفح هاتفه الذكي مثلاً، ويضيف: تباً لتلك التقنيات الحديثة التي عكّرت صفو الجلسات بين الناس، فأصبح من معك ومن يزورك في مكان آخر عنك، يرن الهاتف فيقطع الحديث، أو تأتيه رسالة فيضطر للخروج والمغادرة، هذا فضلاً عن الانشغال الذي يحدث أثناء الجلسة بـ “لايك”، أو إعجاب تلقاه على ما يسمونه فيسبوك، يختم سكر، تتواصل مع أصدقائك في زمن التقنية، هم سيكونون معك، ولكنك لن تجد أحداً منهم، وهذا سيؤدي لمزيد من العزلة، وتفكك المجتمع، وقلة الاحترام بين الناس، أما أبو علاء فيتحدث عن جوانب أخرى من الانحدار الأخلاقي التي تحدث على هذه المواقع، ويذكر أمثلة عن بعض الأزواج الذين يدخلون الناس في كل تفاصيل حياتهم، ويضيف: بعض اللحظات العائلية هي من الأمور المقدسة بين الزوجين، ومن غير المنطقي مشاركتها مع الآخرين، ونشرها على مواقع التواصل، وهي ما قد يسبب لاحقاً حالات من الطلاق، والتفكك الأسري!.

لا غنى عن الواقع
تؤكد سلمى حبال، وهي طالبة علم نفس، أنك لن تنال أي شيء من اللحظات الواقعية إذا كنت تمضي وقتك وأنت مشغول بهاتفك، وترفق أمثلة عن بحث قامت به مؤخراً عن حالات كثيرة سببتها مواقع التواصل الاجتماعي، والتقنيات الحديثة التي غزت مجتمعنا السوري في السنوات الأخيرة، وسلبت الأشخاص حياتهم الواقعية، تقول حبال: أحد الأمثلة الأكثر طرافة التي يمكن أن نذكرها عن هذه الظاهرة، قيام إحدى الأمهات، مثلاً، بنشر تحديث لصور طفلها الرضيع، ومتابعة التعليقات، وتسجيلات الإعجاب، لكنها في المقابل قد تنشغل عن طفلها نفسه في هذا الوقت الذي تمضيه وهي ترد على التعليقات، وتؤكد أن هذه التقنيات الحديثة تركت آثاراً كثيرة ضارة على مجتمعاتنا من خلال زيادة العزلة، فنحن نتحدث كل يوم ونتواصل مع أشخاص كثيرين، ولكن قد يكون كل هؤلاء أشخاصاً غرباء، ولا نعرف أحداً منهم، وإضافة لكل ذلك فالتواصل الالكتروني يخلو من المشاعر الصادقة التي يمكن أن نلمسها حين نقابل أشخاصاً حقيقيين.. إن كل ما يحدث حولنا يخلّف أضراراً قد لا نشعر بها الآن، لكنها تدريجياً قد تقود إلى حالات كثيرة من التفكك الأسري، وضعف الروابط بين الناس، وزيادة حالات الطلاق، وربما ينتهي كل هذا بصناعة وتوليد جيل من الحمقى، حيث الهواتف ذكية، والناس أغبياء!.

إيجابيات وسلبيات
الحديث عن آثار سلبية بالمطلق بالنسبة للتقنيات الحديثة وبرمجياتها المختلفة ربما يكون من المغالاة، فالتقنية تركت الكثير من الآثار الإيجابية، وقرّبت المسافات بين الأهل والأصدقاء، يؤكد المهندس مهند عمران هذه الحقيقة، ويتحدث عن تواصله المستمر مع أصدقائه في دول أجنبية عبر برامج المحادثة الصوتية، والكتابية، والفيديو، ويقول: عزلة بعض الأشخاص هم من فرضها واقعاً على أنفسهم، إذ يستطيع أي شخص أن يستفيد من التقنيات الحديثة دون السماح لها بالسيطرة عليه، وأن تأخذ كل وقته كما يحدث عند البعض، ولكن في المقابل هناك سلبيات كثيرة أخرى، وانعكاسات يجب البحث عن آثارها، فحتى لو تجاوزنا كل التداعيات المادية، والاجتماعية، والأخلاقية التي سببتها التقنية، يجب أن نتساءل: أين تباع معلوماتنا التي نقوم بنشرها؟! وكيف يحدث هذا الأمر من قبل أحد الأغنياء الذين يسيطرون على تلك المواقع، فتلك المواقع هي محط متابعة ومراقبة من قبل الكثيرين، ولا يخفى على أحد أن العديد من حوادث السرقة تمت بعد أخذ معلومات عنها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؟!.

عواطف افتراضية
في فيلم قصير شاهدته سابقاً، يحتار أحد الآباء في سبب بكاء طفله المستمر الممدد أمامه على سرير خشبي، يحاول الرجل الاتصال بزوجته التي خرجت إلى السوق، ولا يترك حيلة من حيل التكنولوجيا إلا ويستخدمها في محاولة إسكات ابنه، حتى إنه يتصل بالأم عبر أحد برامج الدردشة بصرياً، ويقدم صورتها الرقمية لاسترضاء ولده، لكن دون جدوى، ولا ينتهي بكاء الطفل إلا بقيام الأب باحتضان طفله، وعندها فقط ينتهي بكاء الطفل في رسالة واضحة أن التكنولوجيا لا تعوّض عن الحب!.
لم تشبع العاطفة الالكترونية مشاعر الطفل الرضيع، وهي رسالة واضحة أن كل هذه التقنية والمشاعر الافتراضية ما هي إلا وهم حين نشعر أننا محاطون بالأصدقاء في تلك المجتمعات، ولكن عندما نبتعد عن هذه الأجهزة الخادعة، سنستيقظ لنرى عالمنا مشوشاً، ومختلفاً، لكنه العالم الذي ينبغي أن نكون فيه!.

محمد محمود