الفكر الظلامي يطمس التاريخ: واجباتنا الثقافية بوجه داعش

الفكر الظلامي يطمس التاريخ: واجباتنا الثقافية بوجه داعش

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٧ فبراير ٢٠١٥

 هاني عضاضة

أصبحت الضرورة أكثر من ملحّة لإحداث تقدمٍ ثوري في عالم الفن والثقافة. فقد تخطّت المواجهة ضد "داعش" ومختلف القوى الظلامية كل الحدود مع هدم تلك القوى للآثار التي تختزن تاريخ الحضارات الأشورية والكلدانية البابلية والسومرية وغيرها. حصلت الجريمة في متحف الموصل، شمالي غرب العراق، على يد أولئك الجهلة الذين يشيعون الظلام ويحاولون تدمير هوية المنطقة، وطمس تاريخها بشكلٍ يفوق وحشية المغول.
من الناحية الثقافية، فإنّ المواجهة قد أصبحت اليوم من واجبات كل الشعراء والرسامين والفنانين والموسيقيين والمثقفين على اختلاف مشاربهم وقدراتهم الفكرية والمادية. ولكن العكس تماماً هو الذي يحصل: إننا نشهد تراجعاً ملحوظاً في نوعية الإنتاج الثقافي والمعرفي والفني، وصعوداً غير مسبوق للفن الهابط والاستهلاكي مع صعود الفكر الظلامي، ومزيداً من إهمال المؤسسات العامة المعنية للنخب الثقافية التي تضطر في نهاية المطاف إلى تبديد قواها وطاقاتها الفكرية خلال مهمة البحث عن لقمة العيش بأي شكلٍ من الأشكال عوضاً عن ممارسة حقها في الإبداع. وهذا إن دلّ على شيء فيدلّ على نقصٍ كبيرٍ في المناعة، وضعفٍ في أساليب مقاومة الأفكار الأصولية المتشدّدة، وحصر المواجهة بالقتال العسكري وحده، وبالتالي تسهيل مهمة "داعش" ومثيلاتها، في إدخالنا عصر الانحطاط الفكري والثقافي من أوسع أبوابه.
وهنا في لبنان تحديداً، تزداد "مقاييس" الفنّ والثقافة تكبّراً على صراعات الواقع وانفصالاً حاداً عنها نحو عالم من المثالية الزائفة، وتجاوزاً لآلام الشعوب العربية الغارقة في دمائها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، وغوصاً في عالم "الإثارة" والمال والأعمال الهادفة إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح السريعة. أصبحت الثقافة والأعمال الفنية في لبنان تُبنى على أرضية بالغة الهشاشة، بعدما عُرفت بيروت بإنتاجها الثقافي والفني الثوري في سبعينيات وثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي. يتراجع مستوى الإنتاج الفني والثقافي، في الوقت الذي تشحذ فيه القوى الظلامية، وعلى رأسها "داعش"، قدراتها المالية والتقنية لإنتاج أفلامٍ وصناعة أناشيد تعبّر عن ايديولوجيتها الفاشية بغية تسهيل مهمة الاستقطاب وعسكَرة "العالم الإسلامي" لمصلحتها.
لا نطلب أن يتخلّى الفنان، أو المثقف، عن قصره العاجي. ولكننا نطلب أن يخرج منه قليلاً ليتنفّس هواء الواقع، ويعلن التزامه بمسؤوليته الأخلاقية تجاه قضايا الشعوب المضطَهدة، وأن يتوقّف عن معاكسة التاريخ، واللهث خلف "السكوب" والمجلات الصفراء الباهتة، وأن يعي الخطر الداهم الذي تمثّله القوى الظلامية، ويترجم هذا الوعي في كتاباته ولوحاته وأعماله الموسيقية والشعرية.
لا نطلب أن يتخلّى الفنان، أو المثقّف، عن مساحته الخاصة التي تسمح له بقدرٍ من الإبداع. ولكننا نطلب أن يكون ذاك الإبداع ثورياً، بعيداً عن النزعة الشكلية. نطلب منه أن يجعل من فنّه أو ثقافته، مادةً للمواجهة ضد قوى الظلام، لا مادةً استهلاكيةً ربحيةً مثيرة الشكل عقيمة المضمون. ولا نطلب أن يتخلّى الفنان، أو المثقّف، عن لقبه. بل نطلب أن يكون الفنان فناناً بحقّ، والمثقّف مثقّفاً بحق. لا ترفاً، ولا حكماً، ولا رفضاً، ولا قطعاً قسرياً لسيرورة تطوّر الفن والثقافة، سواء في تقدمهما أو في تراجعهما، بل انطلاقاً من فهم الحاجة والضرورة الموضوعية: لقد أصبحت المواجهة حتمية. لا مفرّ.