أميركا ورحلة البحث عن انتصار متأخر في العراق وسورية

أميركا ورحلة البحث عن انتصار متأخر في العراق وسورية

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢٤ سبتمبر ٢٠١٤

أما وقد بدأت الحملة الغربية – العربية بقيادة أميركية ضد "الإرهاب" في سوريا والعراق بعدما يزيد على 3 أشهر على احتلال مدينة الموصل ومناطق واسعة من البلدين، تحرصُ الإدارة الأميركية على إعطاء الانطباع وهي تؤسس "حلف جدة" بأنها عائدة بقوة الى الشرق الاوسط حيث فقدت خلال العقد الماضي الكثير من نفوذها بفعل تراكم الإخفاقات.
هذا التحالف يفرّق من حيث يريد ان يجمع، يقسّم المنطقة مجدداً مستفيداً من صراعات المحاور فيها، وهو يحمل بذور الفشل في أحشائه.
لا عجب ان تنأى تركيا بنفسها عن توقيع البيان بذريعة التخوف على مواطنيها الذين احتجزتهم داعش في الموصل ثم أطلقتهم بصورة طرحت علامات استفهام. ولا عجب ان تستبعد واشنطن التعاون مع ايران في هذا الملف إرضاءً للسعودية، ثم تعمل في السرّ لكسبها. ثم أين تقف الرياض بالضبط من هذا المشروع؟ في وقت قامت قطر بـ "انعطافةٍ" تقيها شر اتهام دعم الارهاب!      
 جاء الأمر الأميركي للحلفاء بالإنضباط قبل بدء "الأخ الأكبر" حملة جديدة في المنطقة. "حسم" الجميع مواقفهم بوجوب الوقوف ضد "إرهاب داعش"، وإن اختلفوا على مسمَّيات أخرى مثل "النصرة" و"أحرار الشام". من الواضح ان حلفاء واشنطن في هذه الحرب الجديدة التي ستمتد سنوات- على ما يقول مسؤولون اميركيون- ليسوا على قلب واحد. فالسعودية تشعر بشيء من الرضا لأنها لقيت استجابة اميركية لنداءاتها في مواجهة تمدد داعش، وهي - بحماسها لتقديم إمكاناتها لضرب هذا التنظيم- تُمنّي النفس بتوظيف التدخل الأميركي لضرب اكثر من عصفور بحجر واحد، عن طريق توجيه الأنظار مجدداً الى النظام في سوريا كهدف تالٍ او مُزامن لهدف ضرب داعش. وفي البال السعودي ان الفرصة قد تكون مؤاتية لإقناع الادارة الاميركية باستغلال وجود داعش في سوريا لتوجيه ضربة للنظام، وهو تصورٌ فيه الكثير من التبسيط لعناصر الأزمة.
ويبدو ان المسؤولين السعوديين الذين تذمروا سابقاً من تردد الادارة الأميركية في التعامل مع الازمة السورية، وخاصة بعد تراجع ادارة اوباما عن ضرب سوريا في ايلول/ سبتمبر 2013، لم يستفيدوا من التجربة السابقة، وهم لا يقيمون وزناً للحسابات الأميركية المعقدة التي تقوم على رؤية أوسع من تغليب كفة السعودية على خصومها. والدليل ان واشنطن لا تزال تسعى في السر والعلن لكسب تعاون ايران في ترتيب اوراق سوريا والعراق للمرحلة المقبلة، برغم كل ما يقال.
إعادة تموضع
بما ان العمليات الأميركية والحليفة قد بدأت ضد داعش في سوريا، السؤال هو ليس عما اذا كان التنظيم سيصمد أو لا، وانما ماذا بعد تراجعه العسكري؟ هل سيفسح هذا التطور في بروز تعاون اقليمي – دولي، من مؤشراته الأولى ربما لقاء وزير الخارجية الايراني مع كل من نظيريه الاميركي والسعودي في نيويورك، ام ان الفراغ المتولد عن تراجع داعش سيفتح الباب أمام نقاش قديم- جديد حول دور النظام في سوريا في المرحلة المقبلة وطبيعة مسار الأمور في العراق مستقبلاً؟
واذا كانت السعودية قد اضطلعت بمهمة توسيع نطاق تدريب مسلحي المعارضة السورية المناهضين لداعش وتسليحهم، فهي تبقى بالنسبة لبعض الأميركيين شريكاً غير مضمون لتقرير مستقبل الوضع في سوريا على ضوء ما سلف من دعمها جماعات متطرفة.
أما تركيا فترتبُ أوراقها بصورة مدهشة وغامضة في آن معاً، من اطلاق دبلوماسييها ومواطنيها المحتجزين في الموصل بدون ثمن واضح، الى "وضع رِجل في البور وأخرى في الفلاحة" في شأن الانضمام الى التحالف الاميركي - العربي، الى فتح الباب أمام داعش التي نقلت ثقلها العسكري الى شمالي سوريا بعدما خففت انتشارها في دير الزور والرقة لكي تغزو الأكراد في عين عرب بريف حلب القريب من الحدود التركية. لماذا عين عرب؟ الأرجح ان التركي- فيما لو صح انه لعب دوراً ما في هذه الهجمة – يرمي الى ضرب 3 عصافير بحجر واحد: إفشال مساعي الأكراد لتكوين مناطق حكم ذاتي متواصلة عبر جانبي الحدود، الدفع باتجاه تحقيق حلم تركي مبكر بإقامة منطقة عازلة وحظر جوي فوق حلب او قسم من المحافظة بعد تحولها منطقة عمليات للحلف الاميركي- الاقليمي، وهذا التطور من شأنه حرمان سلاح الجو السوري من القيام بعمليات في هذه المنطقة الهامة والتمهيد لتغيرات على الأرض لغير مصلحة الجيش السوري. وأخيراً يمكن - عبر الحملة الدولية- التخلص من عبء "داعش" بعدما أدت وظيفتها في اضعاف الأكراد واستنزاف الجيش السوري والمعارضة "غير المضمونة" لكي تضع انقرة قدماً لها في الأرض السورية.
أما قطر التي جرى الإعلان انها كانت من ضمن خمس دول عربية تشارك في الحملة العسكرية ضد داعش، فتبدو محرجة، وقد حاول أمير قطر خلال زيارته الى ألمانيا التمييز بين داعش وغيرها من الجماعات المسلحة، نافياً اتهامات وتلميحات متكررة اليها بتقديم الدعم للمتطرفين في سوريا، ومنها ما صدر عن وزير المساعدة الإنمائية في الحكومة الألمانية غيرد مولر. ويلاحظ ان قطر هي الدولة الوحيدة، من بين الدول العربية الخمس المشار اليها، التي لم تصدر بياناً بشأن مشاركتها في العمليات الحربية ضد سوريا.
ائتلاف جدة
لم يكن اختيار جدة لاجتماع الائتلاف الاقليمي مصادفة، فالأميركي يريد من السعودية ان تلعب دوراً رئيساً ضد داعش، باعتبار ان الرياض ستكون اكثر جدية من غيرها في هذا المجال بالنظر الى انها تتوجس الخطر من هذا التنظيم، ولأنها دولة "سنية" تستطيع ان تؤمّن المصداقية والغطاء السياسي لهذه الحملة، بدلاً من ان تكون واشنطن في الواجهة حيث يمكن ان يجلب ذلك مزيداً من التعاطف مع داعش.
كما ان الولايات المتحدة لا تزال تعتمد مقاربة تعتمد على عدم الانخراط الأحادي الجانب في أية أزمة دولية وهي تريد من حلفائها تحمل قسط وافر من أعباء أية مهمة، لأن دروس العراق وافغانستان لا تزال قريبة العهد. ولهذا، بمقدار ما يريد الجانب السعودي وحلفاؤه تدخلاً اميركياً كاسحاً ضد داعش، فإن واشنطن تريد منهم دوراً فاعلاً على جميع الصعد، لأنها ترى "داعش" تهدد هذه الدول اكثر من تهديدها لأميركا.
سيكون على الدول المنخرطة في هذا الائتلاف تقديم الدعم على أنواعه، ومن ضمنه: فتح أراضيها للطائرات الحربية الغربية ومعسكرات التدريب للمسلحين السوريين المعارضين، وتوفير والأسلحة والأموال، واستغلال العلاقات مع القبائل والعشائر في العراق وسوريا للعب دور لاحق، وتقديم المعلومات الأمنية الضرورية، وحظر انشطة التمويل للمتطرفين، واغلاق ممرات التسلل الى سوريا، وتنشيط الأجهزة الدينية لمكافحة أفكار "داعش".
يدرك الأميركيون ان مشكلة المنطقة منها وفيها، وهي المستنقع الذي تسبح فيه "داعش"، ولا بد من تنظيف هذا المستنقع من الأوبئة الفكرية والسياسية واعتماد مقاربة تعاون إقليمي للتمكن من دحر هذا التيار المنفلت. كما يدركون ان الاطراف الاقليمية ليست منسجمة في التحرك ضد "داعش"، فلها حساباتها التنافسية الضيقة، ويفضّل بعضُها مساندة "داعش" أو أخواتها، مرحلياً، لكي يكسب في بعض المواقع. كما ان واشنطن لا تعدم الافادة من "داعش" والمنظمات المتطرفة لإيجاد "توازن" ميداني مع الحكومة السورية وتطويق ايران عن طريق العراق والتمهيد للتعامل مع دول المنطقة على انها قطع متناثرة.
تباين في واشنطن
حتى عندما عقد الرئيس الاميركي العزم على محاربة ارهاب "داعش" المتفشي عبر أراضي العراق وسوريا، ظل يرهن نجاح الامر بتوافر ائتلاف اقليمي- دولي، وتوقع ان تستمر عمليات المكافحة ردحاً طويلاً من الزمن. ثم بعد ان وضّح العناوين العريضة لاستراتيجيته لمكافحة الارهاب، أخذ "استراحة محارب" مبكرة، مفسحاً المجال أمام داعش لكي تأخذ احتياطات ميدانية وتتغلغل بين الناس، وهو ما يدفع للتساؤل عن مبرر التأخير وعما اذا كانت الحرب فقدت عنصر المفاجأة. وخرجت الصحافة الأميركية لتتحدث عن تجدد أعراض "العلاقة الصعبة والمضطربة" بين اباوما والبنتاغون التي ظهرت سابقا حول خططه السابقة في افغانستان والعراق.
بل ان العديد من القادة العسكريين السابقين عبّروا علنا عن تحفظهم على استراتيجية اوباما لجهة ما وصفوه بتقييد أيدي الجيش بشأن ارسال قوات الى العراق، لأن الضربات الجوية لن تأتي لوحدها بنتيجة، وتساءلوا عن مبرر "طمأنة أعدائنا مسبقاً بأنه لن تكون هناك قوات أميركية على الأرض"، وفق ما قال الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس الذي عمل في ظل ادارة اوباما حتى العام الفائت.
الآن وصل الجدل الى مرحلة الإقرار بأنه "قد تكون هناك حالات حيث سيذهب مستشارون أميركيون مع بعض القوى المحلية على الأرض للتوجيه أو للمساعدة في "استدعاء بعض القوة الجوية"، كما يقول أنتوني بلينكن نائب مستشار الأمن الوطني الأميركي الذي يشدد في الوقت ذاته على ان نشر مثل هذه القوات لن يصل إلى حد المشاركة في القتال.
وتجدر الإشارة الى ان الادارة الأميركية الحالية كانت قد وعدت بعدم وضع "الأحذية العسكرية" الاميركية على الأرض في العراق، في حين انها نشرت الى اليوم نحو 1600 عسكري أمريكي لملء "الأدوار الاستشارية" وغيرها. وهذا يضعها في حالة تناقض ظاهري بين التزاماتها العلنية وسياساتها الفعلية، ما يدفعها الى ايجاد مقاربة عسكرية من النوع الذي يتحاشى الذهاب الى حرب كاملة، ويضع مزيداً من الأعباء والمسؤولية على القوى المحلية والحلفاء الإقليميين الذين عليهم ان يقلّعوا شوكهم بأيديهم. وبهذا نلاحظ ان مفهوم "القيادة الأميركية" تراجعَ بشدة الى الخلف لأسباب اقتصادية وعسكرية وبروز قوى جديدة على الساحة الدولية، وهذا مؤشر يجب رصده باهتمام لمعرفة اتجاه الأمور في الشرق الأوسط.
التحدي الإيراني
لكن التحدي الأكبر بالنسبة لأميركا والمتحالفين معها يبقى إيران، هذا ما يردّده الساسة الأميركيون الأقرب الى اسرائيل، ومنهم هنري كيسنجر، وهذا ما يُبقي مجال التفاهم بين ايران وأميركا بعيداً. لقد ظهر تضارب في المواقف الأميركية في شأن: هل يجب اشراك طهران في الحملة ضد داعش أم لا؟ ولقد اكدت ايران على مستوى أعلى مواقع القرار (الإمام الخامنئي) انها رفضت طلباً أميركياً للتعاون عبر مستويات ثلاثة: عبر السفير الاميركي في بغداد، وعبر مساعدة وزير الخارجية ويندي شيرمان، وعبر وزير الخارجية جون كيري.
وبعد الكثير مما قيل في هذا الشأن، بادر البيت الأبيض الى القول انه رفض عرضاً ايرانياً للتعاون ضد داعش مقابل مرونة في الملف النووي، في حين تؤكد طهران أنها لا تدرج الملفات الاقليمية ضمن التفاوض حول برنامجها النووي.
والراجح ان أميركا يئست في هذه المرحلة من كسب ايران في هذا الملف الاقليمي وربما أرجأت طرح الموضوع مجدداً الى ما بعد تحقيق "نتائج" في العمليات الحربية الجارية.
وتواجه الاستراتيجية الأميركية وضعاً غير مريح، في ضوء معارضة ايران لأي استهداف للنظام في سوريا بذريعة محاربة داعش، وطهران تقطع الطريق على اي استثمار للحرب على الارهاب من اجل تغيير النظام في شكل يفضي الى مزيد من الاضطراب على غرار ما حدث في العراق. ويتابع الأميركيون ايضاً باهتمام تسارع العمليات الإيرانية في العراق ومنافستها للدور الاميركي في تقديم المساعدة للجيش العراقي وقوات البشمركة والحشد الشعبي التي استعادت المبادرة حول بغداد وفكّت الحصار عن آمرلي وهي تدفع "داعش" من مناطق في ديالى وتكريت.
وتعتبر طهران أن وقف اندفاعة داعش في العراق وإجبارها على التراجع عن بعض المواقع المهمة تُظهر ان التطورات الميدانية الجارية في هذا البلد نتجت في شكل أساسي عن جهود القوى العراقية وإن كان ينقصها اعادة هيكلة وتخطيط وتنسيق، وبالتالي فان الدور الأميركي كان ثانوياً في ما يجري حتى الآن.
وبناءً على ما تقدم، تبقى الإستراتيجية الأميركية قاصرة، شأنها شأن ما سبقها من استراتيجيات في العقود الماضية. وأغلب الظن ان ادارة اوباما تحاول القول انها تفعل شيئاً ما في غياب حلول جذرية.