حكم سلمان: الأسوأ في التاريخ الأسود

حكم سلمان: الأسوأ في التاريخ الأسود

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢٣ يناير ٢٠١٩

أشبه ما يكون بـ«مأساة زاحفة» كان عهد الملك سلمان (تولى العرش في 23 كانون الثاني/ يناير 2015)، ليس لمجرد انقلابه على إرث الجبلّة الأولين من آل سعود، لا سيما لجهة الاعتصام بالتوافق العائلي كتقليد مقدّس لا حياد عنه، وكضمانة مؤكّدة لثبات الحكم، ولكن أيضاً في إدراكه للمخاطر الناجمة عن أخطاء نجله، ولي العهد، وفي الوقت نفسه في توفير الغطاء له على أساس أن ما هو قاصم للظهر لم يقع، أو بحسب توصيف الفيلسوف الفرنسي جان بيير دوبي: «الكوارثية المستنيرة».
تقويم الأربع سنوات من عهد سلمان، وهي دورة وزارية كاملة، لا يتطلب جهداً خارقاً، وبالإمكان اعتماد آلية «مؤشرات قياس الأداء»، أو ما يُعرف اختصاراً بـ«KPI»، لاستخلاص النتائج. على مستوى التركيبة الحكومية، أجرى سلمان عشرة تعديلات وزارية على مدى أربع سنوات، مخالفاً تقليداً كان ثابتاً على الأقلّ منذ الإعلان عن الأنظمة الثلاثة (النظام الأساسي للحكم، ونظاما مجلس الشورى ومجلس المناطق) في آذار/ مارس 1992. لم تعد خافية دوافع التعديلات الوزارية؛ فهي تحيد عن الإطار البيروقراطي، وتندرج في سياق تعديل موازين القوى، وإعادة تشكيل السلطة بالطريقة التي آلت إليها اليوم، بإلغاء مبدأ الائتلاف العائلي كوسم للحكم السعودي، وإحلال صيغة حكم أوليغارشي صارم، يحصر في داخله الفساد والاستبداد، بعدما كان دُولَةً بين عدد كبير من أمراء آل سعود. في النتائج، لم تؤسّس الصيغة هذه لنظام حكم مستقر؛ فالنزعة الإقصائية الثاوية فيها كفيلة بإحداث انقسام عمودي خطير داخل العائلة المالكة، بما يؤشّر إلى تفجير المستقبل بوتيرة غير منضبطة. في الجوهر، هي صيغة تجعل الحاضر رهين موازين قوى وظروف سياسية استثنائية، وتبقي على الاختلال الفادح في معادلة السلطة.
 
منطق العصابة
ما فعله سلمان في أربع سنوات لناحية تقسيم المقسّم (أفقياً: على مستوى المجتمع، وعمودياً: على مستوى العائلة المالكة والمؤسسة الدينية)، لم يفعله الملوك السعوديون منذ الملك المؤسس عبد العزيز (1902 ـــ 1953) وصولاً الى الملك عبد الله بن عبد العزيز (2005 ـــ 2015). إجمالاً، كانت مسيرة عهد سلمان مصمّمة لتحقيق هدف مركزي يتمثل في تركيز السلطة، وتأهيل الوريث، وإبعاد المتربّصين بالعرش من أمراء الأجنحة المنافسة (عبد الله، نايف، فهد، سلطان). بدأ سلمان العمل على ذلك الهدف منذ الساعات الأولى لإعلان نفسه ملكاً، وقبل أن يُوارى عبد الله في التراب، بإعفاء عدد من أبنائه (مشعل بن عبد الله من إمارة مكة، وتركي بن عبد الله من إمارة الرياض) ومستشاره الخاص خالد التويجري، وما تلاه من إلغاء 12 لجنة وهيئة ومجلس في 29 كانون الثاني/ يناير 2015، واستحداث مجلسين: مجلس الشؤون السياسية والأمنية برئاسة محمد بن نايف، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة محمد بن سلمان. كان ذلك مؤشراً إلى تهميش دور مجلس الوزراء لحساب ثنائي جديد يضمّ وزراء ومستشارين يخضعون لرئاسة الأميرين، ومن ثم جاء إعفاء ولي العهد الأسبق الأمير مقرن بن عبد العزيز في 29 نيسان/ أبريل من العام نفسه، وتالياً إعفاء ولي العهد محمد بن نايف من جميع مناصبه في 20 حزيران/ يونيو 2017، وصولاً إلى إعفاء الأمير متعب بن عبد الله من وزارة الحرس الوطني في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. وفي النتائج، أصبح محمد بن سلمان ولياً للعهد، ووزيراً للدفاع ورئيساً للمجلسين، وهو الحاكم الفعلي للبلاد.
في التعديلات الوزارية الأخيرة المُعلَن عنها في 27 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تكشّفت ملامح أزمة عميقة؛ إذ باتت البلاد بين منطق الدولة ومنطق العصابة. فعلى مدى أربع سنوات، كانت الدولة تدار من الديوان الملكي عبر فريق من المستشارين اختارهم محمد بن سلمان بغطاء من سلمان نفسه، فيما تحوّل مجلس الوزراء إلى «هيئة تشريفات» تجتمع لالتقاط الصورة منتصف نهار الثلاثاء من كل أسبوع، بعدما أمسك المستشارون في الديوان الملكي بمفاصل السلطة. لا نتحدث هنا عن أشباح، فهم معروفون بأسمائهم (سعود القحطاني، تركي آل الشيخ، محمد آل الشيخ، بدر العساكر، حازم مصطفى زقزوق، أحمد الخطيب، ياسر الرميان، محمد التويجري). وقد عمل بعض هؤلاء في مؤسسات مالية دولية مثل «مورغان»، وصندوق النقد الدولي، ومصارف كبرى في الشرق الأوسط، والبعض الآخر مثل زقزوق (رئيس الشؤون الخاصة للملك سلمان)، والعساكر (مدير المكتب الخاص للشؤون الخاصة لولي العهد)، وأحمد الخطيب (المستشار الخاص لولي العهد والمضطلع بمتابعة ملف صفقات الأسلحة)، مكلف بإدارة ثروة سلمان وأبنائه في الخارج عبر شركة «Eight Investments» وأضرابها. يتمتّع فريق المستشارين بصلاحيات مطلقة، ولا سلطة عليهم سوى سلطة ولي العهد الذي نقل شؤون الدولة كافة إلى مكتبه الخاص، فصار المرجعية النهائية لأمور البلاد والعباد.
 
الإصلاحات... قفزة في الهوة
لناحية الاصلاحات الاقتصادية، والتي جاءت على خلفية تحذيرات وردت في تقرير صندوق النقد الدولي في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 من أن السعودية ـــ من بين دول أخرى ـــ عرضة للإفلاس والوقوع في هاوية مالية بحلول عام 2020، أُعلن في نيسان/ أبريل 2016 عن «رؤية السعودية 2030». في حقيقة الأمر، كانت أقرب إلى الرواية منها إلى الرؤية، كما يخبر الأداء الاقتصادي على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة. بالعودة إلى مؤشرات قياس الأداء، لم يسجل الاقتصاد السعودي نمواً حقيقياً، وما قيل عن تعدد الموارد لم يتعدَّ مصدرين: النفط والتوسّع الضريبي الذي يمثّل خمس الموازنة العامة. لا بشارة حتى الآن حول منجز اقتصادي فارق في «رؤية 2030». على العكس، فإن ما توافر من معطيات رقمية صادرة سواء عن هيئة الإحصاء العامة الرسمية أو مؤسسات اقتصادية ومالية محلية أو دولية يشي بمزيد من الانزلاقات نحو هاوية اقتصادية، تنبئ بها أيضاً سلسلة خطوات التراجع عن مشاريع اقتصادية كبرى، بدءاً من تجميد قرار طرح «أرامكو» للاكتتاب العام لأجل غير مسمّى، وصولاً إلى تجميد مشروع الطاقة الشمسية ومشروع الابتكارات الفضائية ومدينة نيوم، بسبب انعدام السيولة و«انهيار» الاستثمارات الأجنبية، بحسب وصف وكالة «بلومبرغ» في حزيران/ يونيو 2018.
 
الوعود التي أطلقتها «الرؤية» لمعالجة مشكلات البطالة، وأزمة تملّك السكن، وعجز الموازنة، والدين العام، وزيادة الاستثمارات الأجنبية، أنجبت إحباطاً شديداً. فالبطالة تمثّل أحد التحديات المزمنة للحكومة السعودية. وبحسب معطيات الهيئة العامة للإحصاء، فإن إجمالي المشتغلين للربع الثاني من عام 2018 هو 13 مليون شخص، من بينهم 9.9 ملايين عامل أجنبي، و3.1 ملايين عامل محلي، فيما بلغ عدد السعوديين الباحثين عن عمل في الفترة ذاتها 1.1 مليون شخص. وتضع الهيئة نسبة البطالة ـــ بناءً على إجمالي قوة العمل ـــ عند 12.9 %، فيما تمثّل بالمقارنة مع قوة العمل الفعلية للسعوديين المشتغلين 33%.
والجدير ذكره، أيضاً، أن الحديث عن إصلاحات في سوق العمل، وزيادة مستوى «سعودة» الوظائف وتوطينها، فقد مفعوله المعنوي، كونه أغفل حساب الزيادة السكانية، وتزايد أعداد المتخرّجين في الجامعات، مع التحذير من المقاربة العبثية لمشروع توطين الوظائف بإغفال المربكات العملانية، لا سيما عامل الأجور المتدنية في القطاع الخاص، وطبيعة الأشغال التي يضطلع بها (نحو 50 في المئة منها في قطاع البناء والتشييد)، إلى جانب عوامل أخرى: الأمان الوظيفي، والضمان الاجتماعي... إلخ.
إن حركة التغييرات التي قادها ابن سلمان، والتي أطلق عليها توماس فريدمان وصف «ثورة من أعلى»، ثَبت أنها مجرد قفزة في الهواء. وما كان ضامراً في الداخل لسنوات، بدا بعد مقتل خاشجقي كـ«فقاعة» بالنسبة إلى الخارج. لم يكن مجرّدَ إجراء وقتي تراجعُ الاستثمارات الأجنبية إلى 1.4 مليار دولار في عام 2017 بحسب «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» (أونكتاد) في حزيران/ يونيو 2018. فوتيرة هروب رؤوس الأموال تضاعفت عدّة مرات بعد مقتل خاشقجي، وقد قدّر مصرف «جيه بي مورغان» الأميركي أن يصل حجم تدفق الرساميل المغادرة من المملكة إلى 90 مليار دولار بنهاية عام 2018. ولذلك، بدأت الحكومة السعودية بعد مقتل خاشقجي بالضغط على البنوك ومديري المحافظ المالية للحيلولة دون تدفق الأموال إلى الخارج.
في النتائج، بعدما كان فريق الحكم في السعودية يمتلك مروحة واسعة من الخيارات الاقتصادية الخلّاقة، بات يزاول مهمة فريق الإطفاء. فقد حوّل الفريق الممكنات الاقتصادية إلى مستحيلات سياسية واجتماعية نتيجة تبدّد فرص الإنقاذ المتاحة. فخارطة الطريق لمعالجة ملفات مثل الدين العام (البالغ حالياً 181 مليار دولار ويتوقّع ارتفاعه في 2020 إلى 233 مليار دولار)، وعجز الموازنة (بحسب موازنة 2019 سوف يبلغ العجز 35 مليار دولار بناءً على زيادة مداخيل افتراضية مؤسَّسة على سعر لبرميل النفط عند 85 دولار)، تؤكدان صحة نعت الخبراء الاقتصاديين موازنة 2019 بـ«لائحة أمنيات»، واعتبارهم أن من أعدّها «يجهل قوانين علم الحساب»، بحسب زياد داوود، الخبير في وكالة «بلومبرغ إيكونوميكس»، لأن السبيل إلى تحقيق التوازن المالي في الموازنة السعودية يفرض بيع النفط بسعر 95 دولاراً للبرميل لعام 2019، وهذا في عداد المستحيلات.
 
مستويات قياسية من القمع
في ملف الحقوق والحريات، ينفرد عهد سلمان بكونه الأشدّ قمعاً على الإطلاق مقارنة بالعهود السابقة. وإذا كان عهد فيصل يشكّل محطة فارقة في قمع الحريات وتعذيب السجناء السياسيين وملاحقة الناشطين، فإن من فارق الحياة قتلاً في تظاهرات، أو اغتيالاً في الخارج، أو تحت التعذيب داخل المعتقلات، أو حتى أعداد الفاريّن إلى الخارج في عهده كانوا قلّة، قياساً إلى ما يجري في عهد سلمان. ففي الفترة ما بين 2015 ـــ 2018، سقط نحو خمسين شاباً برصاص قوات الأمن السعودية في محافظة القطيف (خلال مداهمات منازل، واقتحام أحياء سكنية في مدن العوامية والقديح وأم الحمام والجش وغيرها، وتصفيات جسدية في الشوارع العامة). كما سجّلت حالات الإعدام على خلفيات سياسية الرقم الأعلى في تاريخ المملكة، حيث تمّ تنفيذ أحكام أعدام جماعية، أبرزها كان إعدام الشيخ نمر النمر في 2 كانون الثاني/ يناير 2016، مع عدد من الناشطين السلميين. إن التوسّع في استخدام الإعدام يجعله وسيلة للترهيب السياسي؛ إذ لم يعد كونه عقوبة على خلفية جنائية مكتملة العناصر. ففي عام 2018، بلغ عدد حالات الإعدام 149 حالة. وفي آب/ أغسطس 2018، سُجّلت أول مطالبة من المدعي العام السعودي بتنفيذ حكم إعدام ضد الناشطة الحقوقية إسراء الغمغام.
من جهة أخرى، تزايدت حالات القتل تحت التعذيب داخل السجون السعودية، وقد قضى نحو عشرة مواطنين تحت التعذيب، من بينهم مكي العريّض، وحبيب العقيلي، ونزار آل محسن، ومحمد رضي الحساوي، وحبيب الشويخات، وتركي الجاسر وسليمان الدويش. وكان آخرهم في غضون أقلّ من شهر: نايف أحمد العمران، والشيخ أحمد العماري الزهراني، فيما أصيب آخرون بعاهات صحية تأكّدت منها حالات كلّ من: موسى القرني الذي أصيب بالجنون، والمختار الهاشمي الذي أصيب بجلطة دماغية، فيما يعاني المئات من السجناء والسجينات من آثار التعذيب الوحشية التي تضاعفت في السنتين الأخيرتين. وفي ما يتصل بوضع المرأة، ثمة ما يربو على خمسين امرأة ناشطة في السجون السعودية، وقد تناولت وسائل إعلام ومنظمات حقوقية دولية أوضاعهن المأساوية داخل السجون السعودية، ومن بينهن: لجين الهذلول، وإيمان النفجان، وسمر بدوي، ونسيمة السادة، وعايدة الغامدي، وعزيزة اليوسف، ولمياء الزهراني، ونوف عبد العزيز، وفاطمة نصيف، وهتون الفاسي، وفاطمة البلوشي وطفلتها، وسماح النفيعي، وشدن العنزي، وعشرات أخريات.