جيش روسي أصغر وأقوى… يغيّر موازين القوى في أوروبا

جيش روسي أصغر وأقوى… يغيّر موازين القوى في أوروبا

أخبار عربية ودولية

السبت، ٤ مارس ٢٠١٧

يقتضي بلوغ علاقة أكثر استقراراً مع روسيا تُرسى من «موقع قوة»، فهم موازين القوة العسكرية الجديدة في أوروبا وتطور القدرات الروسية العسكرية. وحري بالولايات المتحدة تطوير استراتيجية تعامل مع روسيا تستند الى الوقائع العسكرية «الملموسة» وليس الى التفاؤل. وشاب سياسة الإدارة السابقة (إدارة أوباما) هوة شاسعة بين الخطابة والاستراتيجية، فهي دانت روسيا سياسياً وخسرت استراتيجياً. ويتوقع أن يبقى الارتياب على حاله في العلاقات «الأطلسية» – الروسية.

وليس الجيش الروسي في 2017 ضعيف التسلح والتنسيق على ما كانت حال القوات الروسية التي اجتاحت جورجيا في آب 2008. لذا، أثر الأزمة الحالية أعظم من أثر الأزمة التي واجهت إدارة أوباما في 2009. وإثر اصلاحات بدأت في تشرين الأول 2008 وبرنامج تحديث في 2011 قيمته 670 بليون دولار، صارت القوى المسلحة الروسية أبرز أداة من أدوات القوة الروسية. فموسكو فككت الجيش السوفياتي الضخم، واستبقت ما ترتجى منه فائدة وعززته، وأنشأت جيشاً أصغر حجماً ولكن قدراته أكبر. وعديد القوات المسلحة الروسية في ارتفاع متواصل، وبلغ اليوم 900 ألف جندي، وبرنامج التسلح الحكومي يواصل استبدال العتاد العسكري المتآكل و «المسن» بعتاد أحدث. وعلى رغم أن عملية الإصلاح وضخ التمويل غير شاملتين، أفلحتا في ترميم القدرات الحربية في الجيش الروسي. ولا شك في أن قدرة موسكو على انفاق مستديم على القطاع العسكري هي مدار تساؤل، في وقت انخفضت أسعار النفط وركود الاقتصاد الروسي، ومعاناته عقوبات غربية. ولكن روسيا تتمسك بالانفاق على موازنة الدفاع، وقصرت الاقتطاعات المالية على قطاعات أخرى. وعلى رغم تقليص الانفاق على المشتريات العسكرية، الانفاق على تطوير القدرات النووية والأسلحة البعيدة المدى متواصل في سعي الى الحفاظ على القدرات الحالية، في وقت خسرت موسكو مكونات بارزة درجت على شرائها من القطاع الدفاعي الأوكراني والأوروبي، وهي أبرز خسارة لحقت بعملية تحديث القدرات الدفاعية الروسية.

وارتفعت الموازنة الدفاعية الروسية وبلغت 4.2 في المئة من الناتج المحلي في 2015. ومذّاك، انخفضت نسبياً، ولكن يتوقع الا تنخفض الى ما دون 3.7 في المئة من الناتج المحلي، وأن تبقى نسبتها أعلى من نظيرها في صفوف حلفاء أميركا الأوروبيين. وفي إمكان روسيا الحفاظ على مستويات الانفاق العسكري هذه من طريق تقليصات في مجالات أخرى. ولو انهارت أسس التمويل، ليس أثر هذا المنعطف الدراماتيكي في أحوال قواتها المسلحة، أي انتقالها من الضعف الى القوة، موقتاً، ولا يسع أميركا إغفال أخطار ما يترتب عليه. وقيادة الأركان الروسية انصرفت الى تدريب القوات وتحسين جاهزيتها من طريق مناورات وتدريبات مشتركة وتدريبات سنوية عملانية واستراتيجية. واستعاد الجيش الروسي جاهزية عملانية غير مسبوقة منذ التسعينات. وحجم القوات الروسية هو شطر ضئيل من القوات السوفياتية الضخمة التي واجهها «الناتو» في أوروبا. ولكن قوات حلفاء أميركا في أوروبا ضمرت، وتراجعت قدراتها التقليدية. وقلصت واشنطن كذلك قوات البحرية وقوات الجيش الى مستويات لا تناسب تحديات مواجهة ما بين الدول، على رغم أن هذه التحديات متوقعة.

وروسيا قوة برية في أوراسيا. ويعود شطر راجح من قدراتها النارية الى قواتها البرية لجبه تفوق القوات الغربية في سلاح الجو. وأُنجزت سلالات من أنظمة السلاح التي طورها الاتحاد السوفياتي في الثمانينات، ووزعت على القوات الروسية، وطُورت القدرات على توجيه ضربات دقيقة طويلة الأمد، والدفاعات الجوية، وحُسنت قدرات الجنود. وفي إمكان روسيا اليوم استنفار 40 الى 50 ألف جندي، ونقلهم جواً مع القوات الخاصة والمركبات والمشاة، في وقت سريع. ولكن القوات الروسية البرية، وعديدها بين 300 الف جندي و350 الفاً، تفتقر الى احتياطي عملاني. ولا يسعها نشر غير شطر من هذه القوة، وقدراتها العسكرية عاجزة عن احتلال أراضٍ مترامية والإمساك بها، أو التعويض عن خسارة قواتها القتالية في عمليات دفاعية. وهذه خلاصة العمليات القتالية في أوكرانيا حيث ارتفعت الضغوط والتوترات على الوحدات الروسية المتناوبة في أنحاء الدونباس. والقيود العملانية تظهر أن الجيش الروسي ليس خطراً وجودياً على أوروبا ولا على أوكرانيا، ولكنه قادر على إلزام دول الجوار بما يشاء من طريق توسل القوة والتلويح بها. فالقوات العسكرية الروسية هي قوة إكراه.

والعقيدة الروسية العسكرية صيغت في عدد من المبادئ ووسمت بـ «جيل الحرب الجديد»، وهي مرآة رغبة في بسط مصالح روسيا بواسطة وسائل غير متكافئة ومقاربات شبه تقليدية subconventional. وتدرك موسكو حدود قوتها، وتستسيغ تجنب عمليات تقليدية مكلفة، وترجح كفة إحراز مكاسب استراتيجية من طريق الحرب السياسية والقوات الخاصة وغيرهما من الوسائل غير المباشرة. وثمة نازع قوي الى نظام ردع غير نووي قوامه أسلحة تقليدية طويلة الأمد ومجالات رد مباشر مثل الحرب السيبيرنيطيقية (السيبرانية) أو حرب المعلومات. وهذه الاستراتيجية تغلب كفة خفة الحركة والسرعة والاحتفاظ بخيارات التصعيد من أجل رسم وجه ميدان المعارك من طريق التوسل بما قل ودل من القوة «الصلبة».

والدروس المستخلصة من التجارب الروسية في أوكرانيا وروسيا تدمج في عقيدة الجيش الروسي، والأخير في طور التحديث والتجربة ويمتص الاصلاحات الفوضوية ووتيرة القتال العملاني السريعة في العامين المنصرمين. ولا شك في أن روسيا قطفت ثمار الاستثمارات الضخمة في قطاعات الأسلحة النووية وسلاح الجو والصواريخ الموجهة البعيدة المدى. ويشير القتال في أوكرانيا وسورية الى أن جاهزية القوات الروسية في حال أكثر من «جيدة» لتحدي أي جمهورية سوفياتية سابقة على حدودها، والدخول في مواجهة مع «الناتو» في قتال حامي الوطيس وقصير الأمد. ولا شك كذلك في أن روسيا لا يسعها احتلال دول كاملة، ولكنها قادرة على سحق جيوشها ومصادرة أراضٍ وقضمها وضمها.

ولا يخفى أن الجيش الروسي الجديد لم يحارب في حرب واسعة بعد. ومساحة روسيا هي ثُمن مساحة اليابسة في المعمورة، وجيشها اليوم هو ربما الأصغر في قرون. ويشير مكان انتشار قواتها العسكرية الى نياتها القتالية. فبين 2009 و2012، أرسلت موسكو عدداً كبيراً من الوحدات العسكرية الى الحدود الأوكرانية. وكان الجيش الروسي يهمل منطقة البلطيق. ولكن ثمة 4 ميول طارئة على المواقع العسكرية الروسية في المسرح الأوروبي: قوات كبيرة تسعى الى تطويق أوكرانيا، وتجدد القوات البرية والبحرية في القرم، وبعث العمليات العسكرية الجوية والبحرية، وتحديث عام والتوجه نحو البلطيق. ففي أواخر 2014 الى مطلع 2016، أعلنت موسكو عودة كتائبها الى الحدود الأوكرانية، وأنشأت ثلاث فرق جديدة لتطويق أوكرانيا في ما سماه وزير الدفاع، سيرغي شويغو، «الوجهة الاستراتيجية الجنوبية الغربية». وتنشئ روسيا قواعد لها حول أوكرانيا/ وتحدث سلاح الجو التكتيكي والبنى التحتية وتعد العدة لتجمع قتالي مستدام حول أوكرانيا من الشمال الى القرم.