هل وقعت تركيا في «فخ جرابلس»؟

هل وقعت تركيا في «فخ جرابلس»؟

أخبار عربية ودولية

السبت، ٣ سبتمبر ٢٠١٦

بعد أقل من أسبوع على عملية «درع الفرات» التركية في جرابلس ومحيطها داخل الأراضي السورية، بدأت تتلبد في سمائها بعض الغيوم القابلة للتحول إلى غيوم سوداء.
الرغبة التركية كانت جارفة في أن تطأ أقدام جنودها الأراضي السورية، وفي ذكرى معركة مرج دابق، لتعوض معنوياً بعض هزائمها الميدانية في المنطقة من سوريا إلى مصر، ومن السعودية إلى ليبيا، ومن تونس إلى العراق.
ومع أن الغزو التركي للتراب السوري حظي بمباركة أميركية لولاها لما كان هذا التدخل، ورغم أن بعض «أصدقاء تركيا الجدد» مثل روسيا وإيران على علم به بحسب نائب رئيس الحكومة التركية نعمان قورتولموش، ومع أن دمشق أُبلغت بذلك عبر روسيا بحسب قورتولموش أيضاً، فإنه بعد أيام فقط من الغزو، بدأت تحولات على الأرض وفي المواقف الإقليمية والدولية.
واشنطن أيدت الغزو، بل منحته التغطية العسكرية الجوية. وروسيا وإيران لم تظهرا معارضةً علنية ولا استنكاراً واضحاً. أما دمشق، فكان الانطباع في أنقرة أن موقفها من الغزو لم يكن حاداً.
دخلت تركيا إذاً سوريا وسط «تفاهم» مع أميركا و «تفهم» من أطراف لطالما كانوا على طرفي نقيض من سياساتها السورية والإقليمية.
وعلى هذا الأساس، اندفعت الدبابات والقوات الخاصة التركية مصحوبةً بعناصر ما يسمى بـ «الجيش السوري الحر» الذي كان موضوعاً في غياهب النسيان، لكن أنقرة أحيت عظامه الرميم. وهنا لو كان هذا «الجيش الحر» قادراً على القيام بمفرده بذلك لما دخلت تركيا، ولكنه أعجز من أن يستطيع ذلك. فكان أن تولى الجيش التركي ذلك، ليكون عناصر «الحر» مجرد ديكور تسعى أنقرة من خلاله إلى التعمية على غزوها الكلي لسوريا.
لكن مع كل يوم كان يمرُّ بعد الغزو، كانت التطورات الميدانية تأخذ شكلاً يخالف ما كانت أنقرة أعلنته من استهداف تنظيم «داعش» وتنظيف جرابلس ومحيطها منه. فإذا بالقوات التركية تتوجه نحو مناطق تتمركز فيها «قوات سوريا الديموقراطية» التي تشكل «قوات الحماية الكردية» عمودها الفقري.
وكان بيان القوات الكردية أنها انسحبت إلى قواعدها شرق الفرات سحباً للذرائع التركية من التقدم نحو منبج، لكنها تركت «مسمار جحا» في أرض الميدان عندما قالت إن «مجلس منبج العسكري» سيتولى الدفاع عن منبج إذا تعرضت لعدوانٍ تركي. في الوقت ذاته، كانت تصريحات أخرى من مسؤولين أكراد من أن المقاتلين الأكراد لن ينسحبوا من أرض حرروها بدم الشهداء من إرهابيي «داعش»، وأنهم سيقاومون أي محاولة من الجيش التركي للتقدم نحو المناطق التي فيها مقاتلون أكراد.
لم يتأخر الأمر كثيراً بالنسبة لروسيا التي أعربت عن قلقها من التطورات الميدانية ودعت تركيا إلى مهاجمة مناطق «داعش» دون غيرها. ثم جاء البيان الإيراني الذي يدعو تركيا إلى وقف عملياتها في سوريا وداعياً بصورة غير مباشرة إلى انسحاب القوات التركية من هناك عندما اعتبر أن بقاء القوات هناك يزيد الوضع تعقيداً.
أما سوريا فمن الطبيعي أن تكون المعنية الأولى بما يجري وألا تسمح بتأويلات متعددة لبيانها الأول، فكانت رسالة بشار الجعفري إلى الأمم المتحدة لتضع النقاط على الحروف، وتبدد الالتباس الحاصل في البيان الأول.
ومن ثم جاء الموقف الأميركي ليقول لتركيا إن التوجه لقتال الفصائل الكردية أمر غير مقبول. ومن ثم كان الإعلان الأميركي عن وقف للنار بين تركيا والأكراد، وهو ما أثار زوبعة من ردود الفعل التركية على مستويات مختلفة تندد بالموقف الأميركي وتعتبر أنه تخل عن تعهدات أميركية بانسحاب القوات الكردية إلى شرق الفرات، فضلاً عن أنه «إهانة» لتركيا أن تنظم اتفاقاً لوقف النار مع «منظمة إرهابية» مثل «قوات الحماية الكردية» (بينما ليس إهانة مثلاً أن تتحالف مع تنظيمات إرهابية مثل «داعش» أو «النصرة» أو فصائل «نورالدين زنكي» و «التركستاني» و «الجيش الحر» وغيرهم وغيرهم!).
في خضم هذه المتغيرات، سرعان ما عادت قضية فتح الله غولن لتتحول إلى قميص عثمان العلاقات التركية - الأميركية. فأعاد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو التذكير بغولن داعياً الولايات المتحدة إلى تسليمه وإلا فستتبدد الثقة بالكامل مع واشنطن. الموقف التركي كان مؤشراً على أن العلاقات التركية - الأميركية ربما تكون عادت إلى مربع ما قبل الغزو التركي.
لا يمكن الشك بأن تركيا لم تكن تتحسب لانقلاب الحليف الأميركي عليها. لكن الحسابات التركية كانت تنطلق من أن استئناف الصراع أو التفاوض مع كل الأطراف وفقاً لمعطيات ميدانية جديدة من خلال احتلال جرابلس ومحيطها والتقدم بحسب ما تسنح الظروف، هو أفضل من الصراع - التفاوض مع بقاء الجيش التركي خلف الحدود. لذا فإن الغزو التركي يشكل بالنسبة لأنقرة فرصة لخلق ديناميات جديدة في الصراع تنتهي بربح أو خسارة تبعاً لحسن توظيف الأوراق الجديدة.
على ما يبدو فإن تركيا لم تكن تنتظر أن ينقلب الحليف الأميركي بهذه السرعة. وكانت تود ألا تبدأ مواقف «صديقيها» روسيا وإيران بالانتقال بهذه السرعة إلى التحذير.
من هنا، تجد تركيا نفسها اليوم ميدانياً وسياسياً في مأزق حقيقي. فهناك خطوط حمر أو قريبة إلى الحمر وضعتها أميركا ميدانياً. وتركيا أمام خيارين، إما الالتزام بالسقوف الأميركية، أو تحديها، وبالتالي التقدم نحو منبج ونحو مناطق أخرى.
أما المواقف السياسية الروسية والإيرانية فتشكل أيضاً كابحاً أمام مواصلة تركيا توسعها الميداني، ليطرح التساؤل: هل وقعت تركيا في «فخ جرابلس» من قبل كل الأطراف من أميركا وروسيا وإيران، أم ان لدى تركيا أوراقاً تراهن عليها لتجاوز العوائق الجديدة التي ارتفعت أمامها؟ وهل يمكن لتركيا ان تمضي في مسار كامل مع أحد المحورين ضد المحور الآخر: محور روسيا - ايران ومحور الولايات المتحدة - السعودية - أوروبا؟ وهل تستطيع أن تبقى تركيا معلقة ومتنقلة بين المحورين، خصوصاً في ظل نقاشات عن غياب واضح للأهداف السياسية من العملية؟ هل تستهدف فقط الأكراد ام حجز مقعد قوي على طاولة المفاوضات ام تنتهي إلى طموحات باقتطاع أجزاء من سوريا تحت ذريعة المنطقة الآمنة؟ وهو ما تحاول أن تفعله مع العراق أيضاً من خلال التمركز في معسكر بعشيقة رغم أنف العراقيين حكومة وشعباً؟
وهل يمكن أن تتدحرج الأهداف ربطاً بتطور الحرب في سوريا وهي حرب مفتوحة ومتعددة الأطراف ومفتوحة على متغيرات دائمة بحيث لا تعود تركيا تدري ضد من تحارب وإلى جانب من؟ وبالتالي كم من الوقت ستبقى القوات التركية في سوريا؟ حيث يقدر خبراء عسكريون أتراك أنه في ضوء الأهداف السياسية، غير الواضحة بجميع الأحوال، قد يستمر وجود القوات التركية في سوريا من خمس إلى عشر سنوات!!
يبرز هنا كلام لمسؤول تركي رفيع المستوى لم يشأ ذكر اسمه، أدلى به لصحيفة «ميللييت»، أمس الاول الخميس، يحذر فيها من «اللعبة القذرة» التي تحاك ضد تركيا، قائلاً «أولاً إن تركيا أمام إعطائها معلومات استخبارية خاطئة سواء من الأميركيين أو الروس لتضرب طائراتها أهدافا مدنية تسيء إلى صورة تركيا. وهذا سيكون خطيراً على تركيا».
ويضيف أن «هؤلاء لا يريدون تدمير قوات الحماية الكردية ولا داعش. بل إن الجيش السوري قام بهجمات على الجيش الحر في محيط حلب لمنعه من المشاركة بفعالية بعمليات الجيش التركي ومنع القوات التركية من التقدم إلى منطقة الباب».
ويعتبر المسؤول أنه «في وقت تضع تركيا هدفاً لها حماية وحدة سوريا، فإن إيران تدعم (الرئيس السوري بشار) الأسد مذهبياً، وروسيا تدعمه إيديولوجياً كنظام بعثي وليس من مانع لديهما من صيغة تقسيمية لسوريا. أما الولايات المتحدة فهدفها «لبننة» سوريا وإقامة كانتونات متفرقة لا يمكن إدارتها ولا تجلب الاستقرار لسوريا وتدعم كانتوناً هنا وآخر هناك».
وينتهي المسؤول التركي الرفيع المستوى إلى أنه «نتيجة لذلك ورغم ان الوضع يظهر كما لو انه سائر نحو الحل، فإننا أمام نشوء جبهات جديدة مختلفة ومتغيرة باستمرار. مع ذلك فإن السعي إلى الحل، يضغط على الجميع لأنه إذا تدهور الوضع أكثر من ذلك، فإنه من غير الممكن التوصل إلى حل يضمن مصالح الجميع في المستقبل».