بروفة أوروبية بلا بريطانيا: ميركل تريد طموح سباق الفضاء

بروفة أوروبية بلا بريطانيا: ميركل تريد طموح سباق الفضاء

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢٩ يونيو ٢٠١٦

كان من المفترض أن تكون بروفة أولى لاتحاد أوروبي من دون بريطانيا. جلس الزعماء الأوروبيون فيما كان المقعد الثامن والعشرون فارغاً، بعدما قرر البريطانيون أنهم يريدون مغادرة المنزل العائلي الذي عاشوا فيه أكثر من أربعة عقود. لكن على طاولة الفطور، المزينة باثني عشر أصيص ورد بعدد نجوم العلم الأوروبي، كان المقعد الشاغر محور المناقشات. ذلك الغياب كان الحاضر الأكبر. هكذا صار التفكير بـ «أوروبا الجديدة» شديد الارتباط بتشخيص العلّة التي أوصلت إلى المأزق البريطاني. طي الصفحة ليس ممكناً من دون أخذ العبر الموجعة مما أوصل القصة الاوروبية لهذا المفترق.
مقاربات محنة الاستفتاء البريطاني متفاوتة، وفق المصالح وإثبات من كان على صواب، لكن ثمة إجماعاً على أن المخاطر تحيق بالمنزل العائلي، حيث ينتشر المشاغبون في كل أرجائه مدفوعين الآن بزخم حصول السابقة. لذلك قام الزعماء الاوروبيون بإطلاق مبادرة طوارئ مشتركة، عنوانها امتصاص التململ الشعبي، على أن يكون القادة أنفسهم هم من يشرفون على وضع المقترحات العملية دلالة على إدراكهم للمخاطر. بعضهم قال إنها «فرصة كبيرة» لمستقبل آخر، لأوروبا أكثر وحدة وتماسكاً، فيما آخرون اعتبروا أن الاتحاد بات أمام واقع جيوسياسي مختلف تماماً.
قبل كل شيء، كان من المهم للقادة الأوروبيين بعث رسالة تطمين، رسالة يقين لمواطنيهم. أصدروا ورقةً مشتركة أقرّوا فيها بأن هناك واقعاً جديداً الآن، لكنهم أكدوا على أنهم مصممون على التمسك بالوحدة الأوروبية. شددوا على أنهم يقفون «على أهبة الاستعداد لمواجهة أي صعوبة يمكن أن تنتج عن الوضع الحالي»، مثبتين أسباباً جوهرية لعدم تغيير البوصلة: «الاتحاد الاوروبي هو إنجاز تاريخي من السلام والازدهار والأمن في القارة الاوروبية ويبقى إطارنا المشترك».
لكن كل هذا لم يحجب اعترافهم بتزايد التململ بين الشعوب، حتى لو سمّوه «الاحباط من الوضع الحالي». قالوا إنهم يدركون أن هناك أوروبيين لديهم «توقعات أكبر لتوفير الأمن والوظائف والنمو، وأيضاً الأمل بمستقبل أفضل». وعيهم بخطورة تراكم ذلك الإحباط جعلهم يؤكدون «لذلك نبدأ اليوم استجابة سياسية لاعطاء دفعة لمزيد من الاصلاحات بالتماشي مع أجندتنا الاستراتيجية، ولتطوير الاتحاد الأوروبي مع 27 دولة». الحراك سيقوده المستوى الأعلى من السلطة لأن الدفعة المطلوبة «تتطلب قيادة الزعماء» مباشرة، حيث سيعودون بمقترحاتهم وخططهم إلى قمة مخصصة لذلك في أيلول المقبل.
الواضح أن تلك الاقتباسات، لورقة من زعماء دول، تعبر عن فهمهم لطبيعة المخاطر الوجودية. لا مجال بعد السابقة البريطانية لتجاهل حالة ما تعتاش عليه حركات شعبوية متطرفة، وجدت ما يكفي من الاستياء لتنتعش في شكل قياسي. لن تمر الامور هنا على بروكسل، التي قدمت الكثير من الخطط والمقترحات، فيما ساهمت التباينات والخلافات بين الحكومات الاوروبية في إجهاضها بعضها أو تمييع أخرى.
يقولون إنهم يأخذون خطورة اللحظة التاريخية على كامل محمل الجد. هنا ثمة إجماع، لكن ما الذي أوصل إليها حراك الخلافات. الدول المتضررة من التقشف، الضوابط المالية المعيارية للتكتل، قالت إن تلك السياسات مسؤولة عن حالة التذمّر لديها. هؤلاء اعتبروا أن البريطانيين الغاضبين من أوروبا ضاقوا ذرعاً بعدم العدالة الاجتماعية، فلم يكن يعرف الاتحاد الاوروبي بشكل ممتاز سوى الشركات الكبرى والمصارف العملاقة التي عاشت من لندن على منافعه.
كانت فرنسا وايطاليا واليونان من أنصار تلك المقاربة، أي باختصار عودة ظهور الانقسام بين الجنوب والشمال. سألت «السفير» رئيس الوزراء اليوناني اليكسيس تسيبراس أي أوروبا يريدها الآن بعد الأخذ بالعبرة، رد فوراً «أوروبا محورها المجتمع، هذه هي القضية بالنسبة لي، مع مبادرات كبيرة».
لكن كيف يمكن تحقيق ذلك، في ظل الوضع القائم وشروطه الصعبة اقتصادياً؟ يرد تسيبراس بأن هناك حالة استعصاء لا يمكن القفز عنها: «ليس عادياً أن هناك بطالة 25 في المئة في بعض الدول، عدم المساواة بين الدول وداخلها يزداد بسرعة»، قبل أن يشرح من المثال الأقرب: «قبل الأزمة (المالية) كان معدل البطالة في اليونان 7.5 في المئة، وفي المانيا سبعة في المئة، لكن اليونان الآن لديها 27 في المئة بطالة، والمانيا 4.5. لذلك يمكن لأي شخص أن يفهم أنه مع هذه التفاوتات، عدم المساواة، من المستحيل الاستمرار. لذلك من المهم استبدال البطالة بالوظائف اللائقة والتقشف بأجندة النمو».
الجميع تقريباً تصرف على ذلك المنوال. هنا أوصلت الأمور بعض الدول لاتهام بروكسل، ومن خلفها برلين، بالمسؤولية عن الانفصال البريطاني. قالوا إن عامل الهجرة، معطوفاً على أزمة اللاجئين كما هوّلت حملة «الخروج»، كان عاملاً حاسماً في الاستفتاء. دعمت تلك المقاربة دول أوروبا الشرقية، خصوصاً المعادية لأي ترحيب باللاجئين، ليخرج مجدداً رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان متبختراً ليقول «لقد كنت على صواب» بالنسبة لسياسات الصد.
طبعاً لا تتفق دول عديدة على تلك المحاججة، لكن لا مجال هنا لكثير من السجال. هناك من يرى أن حالة التذمر الشعبية لديه تعيش على تلك العوامل، وبالتالي لا مجال إلا الاصغاء إليه. لهذا ستكون سياسات الصدّ، التشبث بالاتفاق مع تركيا لاغلاق طريق البلقان، ركناً أساسياً في استراتيجية تطويق مخاطر العدوى البريطانية، طبعاً إلى جانب تمتين العمل الأمني المشترك لمواجهة التهديدات الارهابية بوصفها عاملاً منفراً من أوروبا أيضاً.
بالنسبة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فالحكمة هي الردّ، وليس القفز إلى احتمالات قصوى. قالت إن المسألة ليست أوروبا أكثر أو أقل بل أوروبا «أكثر فعالية». هناك أماكن برأيها يلزمها أوروبا أكثر، مثل المساعدات الحكومية والأوروبية للصناعات الاستراتيجية، فيما ثمة حاجة لأوروبا أقل بالعلاقة مع أثقال التشريعات والقوانين. لذلك فمن ينادون بالتخلي عن الضوابط المالية، تغييرها نزولاً عند أزمة هيكلية لاقتصادهم، فهذا أمر لا يقابل بالترحيب. قالت لهم إن هناك وجها آخر لحججهم، لتسمع فرنسا ذلك، عبر حلول ترفع القدرة التنافسية للاقتصاد.
على كل حال، لم تذهب ميركل بعيداً في تلك السجالات. قالت إنها أيضاً تشعر بإلحاح التحرك، لملاقاة حاجات كتل شعبية مؤثرة انتخابيا. الأهم برأيها هو أن يكون الطموح الاوروبي واضحاً وملموساً للمواطنين، أن يعرفوا بالهدف ويفهموا منافعه وأهميته، ليكونوا «مقتنعين لماذا نقوم بهذه السياسات». ذكرت مثالاً لافتاً. روت للصحافيين كيف أثار اهتمامها حديث بعض الزعماء: «حينما أرسلت روسيا أول ناس إلى الفضاء، قالت أميركا علينا الآن إرسال ناس إلى القمر. لذا علينا وضع أجندة إيجابية، إظهار ان لدينا طموحاً وإلهاماً سيجلب الازدهار لشعوبنا».
حينما سألت «السفير» مسؤولاً أوروبياً كبيراً، حول طروحات المتفائلين، قال إن الأفق ليس مغلقاً. اعتبر أن خروج بريطانيا «يمكنه أن يكون فرصة لتقوية الاتحاد المالي»، أي زيادة الوحدة الأوروبية سياسياً حول العملة المشتركة والاتحاد الاقتصادي. قال أيضاً إن هناك فرصة أيضاً، رغم صعوباتها، للمضي أكثر في سياسة دفاعية مشتركة.
لكن واقعيين آخرين كان لهم رأي مختلف، على طريقة أن الخسائر أكبر من الفرص. رئيس الوزراء الهولندي مارك روتا أحدهم، وكان في قلب المعمعة خلال نصف السنة الحالية، لتولي بلاده الرئاسة الأوروبية خلالها. حينما سمع خلاصة «الفرص» من خروج بريطانيا، رد معترضاً «لست متفائلاً جداً أنها فرصة. إنه نداء استيقاظ، أعتقد أننا نحتاج لإعادة التركيز على الأساسيات، السوق المشتركة وتوليد الوظائف والنمو، وأيضاً الأمن».
يصمت روتا للحظة، قبل أن يواصل في النقطة الأخيرة التي يراها جوهرية: «خذ هولندا مثلاً، نحن دولة صغيرة في عالم كبير، حيث هناك الكثير من عدم اليقين خارج الاتحاد الأوروبي، أوكرانيا، روسيا، سوريا، شمال افريقيا وليبيا»، يكمل هذا التعداد قبل أن يستخلص «نحتاج ناد جيوسياسي قوي مثل الاتحاد الاوروبي، أيضاً للشعب الهولندي ليحسوا أنهم آمنون، لذلك أنا مصدوم جداً لفقدان بريطانيا ومغادرتها، وحتى بما يفوق الاسباب الاقتصادية، لأن هذا من الناحية الجيوسياسية سيضعف اتحادنا الأوروبي المشترك».
لا تحول في الرسائل الأوروبية. لا نقاش في احتمالات التراجع عن الانفصال، حتى لا تداول ولا إشارة لما رددته واشنطن، على لسان وزير خارجيتها جون كيري، من أن «هناك طرقاً» ممكنة للتراجع. الرسالة واضحة: لا استعداد للعب من أي مناورات تدور في رأس حزب المحافظين، لا مفاوضات مع لندن حتى ترسل بلاغاً لبدء الانسحاب، فهي من خلقت المصيبة وعليها تحمل تبعاتها بالكامل.
تثبيت تلك الرسالة جاء عبر استقبال بروكسل لرئيسة حكومة اسكتلندا نيكولا سيرجن. أعلنت أن الوجود في الاتحاد الأوروبي أهم بالنسبة لها من الوجود في الاتحاد البريطاني، مثلما قالت أيضاً حكومة ايرلندا الشمالية. جاءت السيدة لتتحرك برشاقة أمام الكاميرات، بابتسامة عريضة، مرتدية الأزرق الأوروبي بالكامل: السترة والتنورة. لم تلتق سيرجن فقط رئيس البرلمان الأوروبي، بل أيضاً رئيس المفوضية، لجعل لندن تفهم أن القضية ليست مزاحا على الإطلاق.