«الأطلسي» يحتاط لـ«الردع» في تركيا: قبة روسية محصنة فوق سورية

«الأطلسي» يحتاط لـ«الردع» في تركيا: قبة روسية محصنة فوق سورية

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢ ديسمبر ٢٠١٥

لغة الأساطير الديبلوماسية تبدو أبعد ما يمكن عن الواقع. إنها لغة القيادة السياسية لـ «حلف شمال الأطلسي»: ليست هناك حرب باردة جديدة، روسيا اخترقت أجواء تركيا التي ردت بإسقاط طائرتها. لكن لغة اليقظة العسكرية تقول عكس ذلك. «الحلف» قرر تقوية موقع تركيا، على حدوده الجنوبية، عبر دعم قدراتها العسكرية بحراً وجواً. مسوغات ذلك «دفاعية»، فالآن لم يعد الأمر في إطار التكهنات. الأمين العام لـ «الناتو» يانس شتولتنبرغ نفسه أعلن أن روسيا تقيم في سوريا ثالث قبة محصنة في العالم، لن يقفوا أمامها متفرجين بطبيعة الحال.
كانت القضية أحد محاور اجتماع وزراء خارجية «الحلف»، بعدما خضعت لتقييم عسكري طويل من قبل قيادة قوات «الناتو» في أوروبا. في طريقه إلى الاجتماع، قال شتولتنبرغ إن روسيا تنقل إلى سوريا «قوات متقدمة عسكرياً»، معتبراً أن «هذا جزء من نظام A2/AD»، قبل أن يضيف أنه «لهذا نحن نعمل لمواجهة ذلك عبر تطوير وتقوية قدرات الردع لدينا، وعبر تأقلم قواتنا مع ما تنشره روسيا قرب حدود الناتو، إنه أمر نستجيب له ونتابعه ونقيّمه عن كثب».
الردع المطلوب مرتبط هنا بطبيعة التحدي وجهته، لذلك قرر «الحلف» العمل لزيادة ما يسميها «إجراءات الحماية» لتركيا. إنها إحدى دوله الثماني والعشرين المرتبطة باتفاقية دفاع مشترك، في إطار الحلف العسكري الأقوى في العالم. صحيح أن موسكو لطالما ذكرت بأنها لديها ما يكفي من العقل لتجنب أي مواجهة، لكن الناتو لا يعمل على هذا الأساس.
تعزيز قدرات تركيا، كما قدمه شتولتنبرغ، سيشمل الدفاع الجوي والقوات البحرية. اسبانيا والولايات المتحدة كانتا تعتزمان سحب بطاريات صورايخ الـ «باتريوت» قرب الحدود مع سوريا، لكن «الناتو» الآن يقول إن المسألة يعاد تقييمها مع إمكانية تمديد وجود قطع الدفاع الجوي تلك. إرسال الطائرات المقاتلة الأميركية والبريطانية إلى الأجواء التركية، وضعه أمين «الحلف» في إطار تقوية «الردع» تجاه مشروع النفوذ الروسي الجديد. في السياق ذاته، يأتي إعداد ألمانيا والدنمارك، مع دول أخرى، لإرسال قطع من القوات البحرية إلى شرق المتوسط.
نظام التحصين A2/AD الذي يقلق «الناتو» يشمل شقين: مكافحة الوصول إلى منطقة، والحرمان من احتلالها. الأول يهدف عملياً لجعل المسؤولين العسكريين أمام «حسابات مخاطر» عالية جداً إلى غير مقبولة، خلال تخطيطهم للتدخل في منطقة معينة. الشق الثاني، المتعلق بالحرمان، يهدف إلى تعقيد محاولات إقامة وجود فعّال عسكرياً، إضافة إلى مقاومته والحد من حرية العمل لتحقيق نتائج سريعة وفعالة.
هذه القبة، لتحصين منطقة نفوذ جغرافية، أتمّت موسكو إنشاءها وتشغيلها في موقعين. الأولى والأكبر في كالينينغراد، الجيب الروسي المنفصل جغرافياً على بحر البلطيق، بين ليتوانيا وبولندا. قبة التحصين هناك تشمل مضادات سفن ومضادات طيران، ويعتبرها الأطلسي «مشكلة متنامية» لحركة قواته. القبة الثانية «طورتها» روسيا على البحر الأسود، في شبه جزيرة القرم بعد ضمها، حيث يغطي نطاق صواريخ «كروز» كامل البحر الأسود، وفق تقديرات الناتو، فيما تغطي صواريخ الدفاع الجوي نحو 50 في المئة منه.
تعليقاً على ما يحصل، استعاد كثيرون أجواء الحرب الباردة، لكن مصدراً مطلعاً على أجواء تحركات «الحلف» تساءل: «ألم تتحول إلى حرب ساخنة» بعد إسقاط الطائرة الروسية؟ خطورة ما حصل يرصدها التاريخ جيداً. حتى في عزّ الحرب الباردة، لم تجرؤ دولة أطلسية على استهداف مقاتلة روسية. آخر مواجهة من هذا الطراز سجلت في بداية خمسينيات القرن الماضي.
صحيح أن الأمين العام لـ «الحلف» نفى العلاقة بين تقوية «الردع» في تركيا وإسقاط الطائرة، لكن مسؤولين آخرين وضعوا القضية في سياق تحدٍ متبادل. وزير خارجية ليتوانيا ليناس لينكيفشيوس ليس لديه أسباب لاعتماد خطاب مقنع تجاه روسيا، كما يفعل أمين «الناتو»، فبلاده لا تكف عن التحذير من تحركات روسيا بعدما كانت لعقود ضمن منظومة الاتحاد السوفياتي السابق. خلال مقابلة مع «السفير»، قال الوزير الليتواني إن «على روسيا بالتأكيد القلق من إسقاط طائرتها، لأنهم يحاولون تحدي أمن الحلف، أمن إحدى دوله، وإذا كانوا يريدون اختبار إن كان ذلك الأمن حقيقياً، فهم فعلوا ذلك في سوريا»، قبل أن يضيف «للأسف طبعاً، نحن لا نريد هذه الدروس والسوابق، لكن هذا بالضبط شيء يجب الخروج به من واقع قائم» في إشارة إلى ضرورة مواصلة خيار «الردع» لدى الأطلسي.
برأي لينكفشيوس، ما تقوم به روسيا هو نموذج واحد من الفعل، في أوكرانيا وفي سوريا. اعتبر أن هدفه واحد وهو «العودة إلى طاولة صنع القرار باستخدام جدل القوة»، قبل أن يعلق على أحاديث عودة الحرب الباردة بالقول «لن أخوض في التسمية، لكن سلوك روسيا ليس تعاونياً بالتأكيد، إنها تثبت مجدداً أنها ليست شريكة في هذه المناطق».
لكن موسكو تستخدم الخطاب ذاته، ملقية باللوم على «الأطلسي» ودوله في الزحف باتجاه مجال نفوذها التقليدي. هذا السيناريو تراه أيضاً جارياً في كل من أوكرانيا وسوريا. بمعنى آخر، تقول روسيا إنها أيضاً تنشر قدراتها العسكرية من قبيل «الردع» لحماية مصالح استراتيجية.
وفي سياق يؤكد هذه المواجهة الباردة، قال ألكسندر غروشكو، مندوب روسيا لدى حلف الأطلسي، أمس، إن «حلف الناتو يتحمل مسؤولية إسقاط القاذفة الروسية»، معتبراً أن «الحلف قام بتوفير غطاء سياسي لتركيا في هذه المسألة، وهو ما يحمله المسؤولية. تصريحات غروشكو نقلتها قناة «روسيا اليوم»، وفيها شدد على أن «الناتو» ليس بريئاً مما حصل: «في الواقع، حلف شمال الأطلسي لم يعط التقييم الأولي لعمل بوصفه غير مشروع، بل هو غطى على سياسة أنقرة، العضو في الحلف، ولذا فإن الحلف مسؤول عن الحادث».
«الناتو» أعلن، منذ الصدام في أوكرانيا، أن روسيا «لم تعد شريكاً استراتيجياً». بعدها مباشرة أخذ يوزع منشوراً لافتاً عن «الأساطير» التي تنشرها «الدعاية» الروسية حول أفعاله. كل ما يحصل يؤكد وجود أجواء احتقان محفوفة بإمكانيات التصعيد.
تعزيزات «الردع» التي سينشرها الأطلسي في تركيا لا تلغي أن روسيا بدأت تفرض معادلات جديدة. منطقة التحصين العسكري أفرزت تقييمات مخاطر عالية على حركة قوات دول «الحلف»، تحديداً سلاح الجو، الأمر الذي انعكس بوضوح في انحدار عدد طلعات القصف الجوي. لهذا، أعلن «الناتو» أن مخططيه العسكريين يقومون بإجراءات جديدة، لزيادة إمكانية التنبؤ بالمخاطر وتقليلها.
إحدى هذه الإمكانيات تحجبها روسيا عن عمد، رغم وجود اتفاق متبادل حولها، كما أكد لـ «السفير» مصدر ديبلوماسي في «الحلف». تحدث عن الاتفاقات التي تضمن لكل طرف أن يكون حاضراً في مناورات الطرف الآخر، لافتاً إلى أن هذا ما فعله «الأطلسي» في دعوة موسكو إلى مناوراته. وفق شرحه، فإن «روسيا تقوم بالإعلان عن مناورات مفاجئة، نتبلغ بها قبل أيام، لذلك لا يكون لدينا أي وقت لإرسال مراقبين»، مضيفاً أن «هذا ما يحصل في المناورات على حدودنا الشرقية، وهو أيضاً ما حصل في المناورة الأخيرة لروسيا في شرق البحر المتوسط».
وسط أجواء التوتر الشديد هذه، خرج وزير الخارجية الالماني فرانك فالتر ليتحدث عن ضرورة التهدئة، وأهمية مواصلة مسار فيينا للحل السوري. شكوك كبيرة دارت حول إن كانت أنقرة استشارت حلفاءها، تحديداً واشنطن، قبل أن يكبس طيارو «إف 16» زرّ الصاروخ الذي صنع التاريخ بإسقاطه «السوخوي» الروسية. ظلال تلك الشكوك تمتد لتحاصر الآن «مسار فيينا»، وليس معروفاً إن كان سينجو من عواقب تلك السابقة التصعيدية؛ بعدما لم يعد مهماً الجدل حول إن كانت ردعاً أم تعدياً.