المحنة السورية: خريطة الطريق الروسية

المحنة السورية: خريطة الطريق الروسية

أخبار عربية ودولية

السبت، ٢٩ أغسطس ٢٠١٥

أشار الديبلوماسيون الروس خلال محادثاتهم مع وفدَي المعارضة السورية (وفد «الائتلاف الوطني» ووفد «لجنة مؤتمر القاهرة») إلى أنهم يعملون مع السياسة السعودية وبقبول أميركي وأوروبي على عقد مؤتمر جامع شامل لفئات المعارضة السورية ومكوّناتها الداخلية والخارجية، وذلك بهدف أن يختار المؤتمر قيادة موحّدة للمعارضة، تمثلها وتحلّ محل قيادات الكيانات المعارضة الحالية. كما يتولى هذا المؤتمر وضع الأسس (الواقعية) بحسب الرأي الروسي للوصول إلى تسوية للمأساة السورية، وبالتالي وضع خريطة طريق مفصّلة ومتوازنة والاتفاق على أسلوب تحقيقها. وقد أبلغ الديبلوماسيون الروس المعارضين السوريين أنهم بدأوا العمل فعلاً للوصول إلى هذا الهدف بعدما اتفقوا على ذلك مع الديبلوماسية السعودية ورشحوا 25 شخصية معارضة لحضور المؤتمر، بانتظار أن تقوم السعودية بترشيح العدد الذي ترغب به. كما يقوم الشركاء الإقليميون والدوليون الآخرون بترشيح أعداد مناسبة، بحيث يتشكل المؤتمر العتيد من مجمل هؤلاء المرشحين، ويكون مؤهلاً لاختيار قيادة موحّدة تهمّش قيادات المعارضة الحالية، وتمثل المعارضة وتستحق بذلك مفاوضة النظام وصولاً إلى تسوية لها مشروعيتها وفعاليتها. وقد أكد الديبلوماسيون الروس أن الأزمة السورية وصلت منتهاها، ولا ينبغي لها أن تطول أكثر من ذلك.

يبدو من ظاهر هذه المقترحات الروسية أنها مناسبة ومتوازنة وتؤهل للوصول إلى تسوية عادلة. ولكن حقيقة الأمر هي أن هذه المقترحات مليئة بالألغام، وربما يصح القول مع بعض التشاؤم إنها مليئة بالخداع وتسعى لتحقيق تسوية ترضي السلطة السورية، وأن السياسة الروسية لم تغير موقفها ولم تبدل حراكها، وإنما تحاول طرح مشاريع مضللة تحقق لها رغباتها ورغبات حلفائها السوريين.

ترى معظم أطراف المعارضة أن من النتائج المباشرة للمقترحات الروسية نزع الشرعية مباشرة عن قيادات المعارضة الحالية لتقدّمها هدية لقيادة المعارضة الجديدة، التي يفترض أن يختارها الروس، وبالتالي تلغي كل المشروعيات السابقة لهذه المعارضة وكأنها بدأت اليوم، وتصبح القيادة المحتمل اختيارها هي القيادة الوحيدة المعترف بها، وتتحلل الديبلوماسية الروسية والمؤتمر المتوقع والمرحلة المقبلة من أي مواقف أو وعود أو إجراءات تمّ تبنيها سابقاً، ويسهل عندها الحديث عن أي مقترحات جديدة غير مثقلة بوعود الماضي أو تجاربه أو ممارسات المعارضة أو حتى ممارسات السلطة.

كما أن السياسة الروسية، ومن خلال تجربتها في دعوة الذين شاركوا في مؤتمري «موسكو 1» و «موسكو 2»، ستقوم بدعوة فئات وشخصيات مماثلة لمن دعتهم لهذين المؤتمرين، أي أن بعضهم ليس معارضاً بل موالٍ بثوب معارض، وغالبيتهم من قيادات الأحزاب التي تم ترخيصها بعد انطلاقة الانتفاضة. وستعمل السياسة الروسية على أن يكون مثل هؤلاء أكثرية في المؤتمر، ويستطيعون، مع قليل من الديماغوجية، السيطرة عليه وفرض اختيار القيادة والبرامج وأساليب العمل، وعندها لن يستطيع أحد تصحيح المسار لا الدول المعنية ولا فصائل المعارضة ولا غيرها.

وقد صرّح ديبلوماسيون روس بعد لقائهم بوفدي المعارضة أنهم يعملون لعقد «جنيف 3». ولا شك في أن مثل هذه الإجراءات كالتواصل مع فئات المعارضة، وعقد مؤتمر للمعارضة، وانتخاب قيادة جديدة، وإقرار خطة للتسوية جديدة، ستكون جميعها مقدّمات لمؤتمر «جنيف 3»، وتستطيع الديبلوماسية الروسية بذلك أن تحرّف المؤتمر بكامله وتحوّله إلى إجراء مفرّغ من مضمونه وتسخّره لخدمة السلطة السورية، وصولاً إلى تسوية جوهرها إلحاق فصائل المعارضة بالنظام والابتعاد عن أي تغيير حقيقي فيه إصلاح أو تطوير. وتحافظ على الشخصيات التي نفّذت السياسة العنفية الخرقاء في سوريا طوال ما يقارب الخمس سنوات، وتتجاهل ضرورة المحاسبة على الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية وضد الشعب السوري. وكل ما في الأمر أن التسوية ستكون صلحاً عشائرياً (بوس لحى) يعطي للمعارضة بعض الوزارات والمسؤوليات ويبقي الهيمنة لأهل السلطة، وبالتالي يبقي الدولة الأمنية والفساد والقمع والتخلّف ويعيد سوريا إلى المربع الأول.

من البديهي أن مثل هذه المقترحات والأفكار الصحيحة ظاهرياً والمليئة بالألغام باطنياً لن تمرّ على مكوّنات المعارضة ولا على الدول الإقليمية المعنية، وأخيراً لن تمرّ على السياسة الأميركية والأوروبية ولن تستطيع السياسة الروسية أن تخدع الجميع وتمرر مشروعاً مشوّهاً يزيد الوبال وبالاً والدمار دماراً ولا يحل أي معضلة.

يبدو أن السياسة الروسية تصدق أوهامها، ولذلك قبلت من دون مقدّمات يوم الأحد الماضي قدوم وفدين أحدهما للمعارضة والثاني للسلطة برئاسة وزير المصالحة علي حيدر، من دون أن تقول لوفدَي المعارضة اللذين حاورتهما في موسكو قبل أيام بأنها سوف تستقبل هذا الوفد. ويبدو أنها تشعر بضعف المدعوّين وعدم مصداقيتهم واستحالة الوصول إلى نتائج جدية بالحوار معهم، ولذلك لم تعلن أسماءهم برغم وصولهم إلى موسكو. ومن المتوقع أن تجعل من لقائهم في موسكو «بروفة» لمؤتمر المعارضة الذي تدعو إليه. واللافت للانتباه أن الديبلوماسية الروسية نوّهت أيضاً بأنها ستدعو فيما بعد إلى مؤتمر وطني سوري عام يضمّ المعارضة والموالاة والسلطة، ولكن بعد مؤتمر المعارضة المتوقع، ويتولى هذا المؤتمر الوطني الشامل وضع إطار عام لحل الأزمة واختيار قيادة تقوم بذلك، وتبدأ عندها ـ بحسب التوقع الروسي ـ المحادثات بين السلطة والمعارضة وصولاً إلى حلّ متفق عليه.

من الملاحظ أن السياسة الروسية لم تدرك بعد أن السلطة السورية القائمة تسبّبت بحرب قتلت أكثر من ثلائمئة ألف مواطن من شعبها، وهجّرت نصف السوريين، وشرّدتهم في أربعة أصقاع الأرض، فكيف بعد هذا كله يمكن أن يقبل معارضو النظام أو أصدقاؤهم تسوية سطحية تصالحية لا تدخل في عمق الأمور، ولا في جوهر النظام ولا تحقق الحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص للشعب السوري وتخلّصه من التشوّهات الطائفية والإثنية وقلب أولويات الشرعية، وتقنعه أن المواطنة هي الشرعية الرئيسة والأولى القادرة على استيعاب الشرعيات الثانوية والمساواة بين السوريين وتعزيز انتمائهم الوطني الموحد وإشراكهم جميعاً في تقرير مصيرهم؟

الغريب في الأمر أن السياسة الروسية بعدما وافق الأميركيون على نشاطاتها المبدئية، وقبلوا أن تهيئ لمؤتمر «جنيف 3»، أصيبت بالغرور، وباتت تحلم أن مشاريعها قابلة للتحقيق، وأن آراءها ورغباتها ستكون مقبولة من الجميع.
حسين العودات