ما بين جنيف وقاعدة السليل.. اليمن إلى أين؟

ما بين جنيف وقاعدة السليل.. اليمن إلى أين؟

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٣ يوليو ٢٠١٥

من جنيف إلى قاعدة السليل الصاروخية جنوب الرياض، مسارٌ يلخِّص مرحلة مهمة بما تحمله من تطوّرات ومفاجآت على المستويين السياسي والعسكري، يضع المتتبِّع للشأن اليمني أمام متغيِّرات جديدة من شأنها التأثير في ميزان المعركة القائمة، فإلى أين يتَّجه اليمن في ضوء المعطيات الجديدة؟
يمكن اعتبار مؤتمر جنيف الخاص بالأزمة اليمنية محطة فاصلة بين مرحلتين رئيسيتين في مسار عدوان «التحالف» بقيادة السعودية على اليمن. فمرحلة ما قبل جنيف لخَّصت مشهد الصراع بصمود اليمن في الميدان العسكري مقابل سيطرة الرياض على مسرح العملية السياسية بحكم ما تملكه من إمكانات للتأثير في أدوات صناعة القرار الأممي، وهو ما مكَّن الرياض من إصدار قرار مجلس الأمن الرقم 2216 الذي اتّخذته كغطاءٍ لفرض حصارٍ خانق على اليمن تجاوز حدود القرار الدولي المتعلقة بمنع وصول السلاح، إلى منع البضائع والمشتقات النفطية في بلد يستورد قرابة 90 في المئة من احتياجاته، الأمر الذي أدَّى إلى تفاقم المعاناة الإنسانية ووصولها إلى مرحلة الخطر، كل ذلك بهدف إجبار قوى الداخل اليمني على الاستسلام تحت وطأة الحصار والحرب، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة.
ذهب وفد صنعاء إلى مؤتمر جنيف، ينوء بتبعات الحرب والحصار، حاملاً هدفين أساسيين: كسر الحصار وبدء المفاوضات السياسية لوقف العدوان. على الجهة المقابلة، ركَّزت أجندة وفد الرياض، المشارك في مؤتمر جنيف، على الخروج بآلية لتنفيذ القرار 2216، ما سيعني اعترافاً بالشرعية أو العمل على إفشال المؤتمر.
اللافت للانتباه أنَّه رافق مؤتمر جنيف، ارتفاع في وتيرة العمليَّات العسكرية في محاولة لإحراز انتصارات ميدانية تعزّز الموقف التفاوضي لكلا الطرفين، غير أنَّ المشهد العسكري ظلّ محتفظاً باستمرار تفوّق القوى اليمنية في مسرح العمليات العسكرية سواءً في الداخل أو على مستوى الجبهة الخارجية على الحدود السعودية. وتجلَّى ذلك في استعادة السيطرة على محافظة الجوف وإحراز تقدّم كبير في محافظات مأرب وتعز وعدن واستمرار القصف والاقتحام شبه اليومي على مواقع الجيش السعودي، بل وتنفيذ عمليات خاطفة في عمق مناطق نجران وجيزان. وفي الجهة المقابلة، حدث تطوّر لافت تمثَّل بدخول «داعش» في خط المواجهة عبر السيارات المفخخة التي استهدفت المساجد ومقرات بعض قادة «أنصار الله»، إلَّا أنَّها، في المجمل، أخفقت في توجيه ضربات موجعة من شأنها تغيير موازين القوة على الأرض. هكذا ألقى مشهد العمليَّات العسكرية بظلاله على مؤتمر جنيف، مرجحاً كفة وفد صنعاء المنهك بفعل الحصار والحرب.
أخفقت محاولات وفد الرياض للإيقاع بوفد صنعاء في مصيدة القرار 2216، لكنَّه نجح في إفشال مؤتمر جنيف وإعادة وفد صنعاء خالي الوفاض كما يعتقد البعض. غير أن إمعان النظر في قراءة تفاصيل أوَّل جولة تفاوضية وما تبعها من تحركات، يقودنا إلى جملة من المكاسب معظمها ذات نتائج مؤجلة. فإلى جانب استثمار جنيف إعلامياً، نجد أنَّ وفد صنعاء نجح في الخروج باعتراف ضمني بسلطة «الانقلابيين» كما تصفهم الرياض، بل لعل المكسب الأبرز، كان ذلك المتمثِّل في تحريك مياه العملية السياسية الراكدة التي بدأت دوائرها في التشكل تباعاً.
وإلى جانب توجّه ممثلي حزب «المؤتمر الشعبي العام» ـ الذي يرأسه الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح ـ إلى موسكو تلبية لدعوة وزارة الخارجية الروسية، استضافت مسقط مفاوضات بين ممثلين عن قوى «الحراك الجنوبي» وقيادات من «أنصار الله». وتمّ تتويج هذا الحراك السياسي بالبيان الصحافي الصادر عن مجلس الأمن، والذي دعا إلى هدنة إنسانية واستئناف المفاوضات السياسية برعاية الأمم المتحدة من دون شروط.
هذا ما لا يروق للرياض التي تشعر بضعف الموقف التفاوضي بسبب انكشافها في مسرح العمليات العسكرية. صحيح أنه لا نتائج يعتدّ بها حتى اللحظة على صعيد العملية السياسية، إلَّا أنَّ تلك التحركات وما رافقها من نتائج، حتى اللحظة، تشكِّل بنية واعدة لعملية سياسية قد تفضي إلى وقف العدوان وبحث صيغة سياسية ملائمة لسدّ فراغ السلطة في اليمن واستكمال المرحلة الانتقالية. ومن تلك المكاسب أيضاً، نجاح وفد صنعاء في إيجاد تفهم لدى ممثلي اللاعبين الدوليين بشأن المخاطر المترتبة على الانسحاب من المدن المسيطر عليها كعدن، في ظلّ حضور نشط للتنظيمات الإرهابية، وهو ما يشكل إعاقة واضحة للمطلب الرئيسي لوفد الرياض المتمثل بالانسحاب الفوري وغير المشروط من المدن. ويدعم ذلك أنَّ تبني «داعش» لسلسلة من العمليات الإرهابية لم تقتصر على اليمن بل شملت الكويت ومصر وتونس ودولا أخرى، قد عزّز مخاوف المجتمع الدولي من أن تؤدِّي الاستجابة لمطلب الانسحاب الفوري وغير المشروط، إلى سيطرة التنظيمات الإرهابية في اليمن على المدن الرئيسية، خصوصاً بعدما سيطرت القاعدة على عاصمة محافظة حضرموت المهمة.
يبقى هناك أمر آخر وهو أنَّ تاريخ الحروب يقود إلى نتيجة ثابتة مفادها أنَّ مسرح العمليات العسكرية هو ما يحسم المفاوضات السياسية، فالمنتصر في المعركة هو من يفرض إملاءاته وشروطه على طاولة المفاوضات. وبالنظر إلى خلاصة مسرح العمليات العسكرية، يمكن القول إنَّه في الوقت الذي استخدمت فيه الرياض معظم، إن لم يكن كل أوراقها العسكرية الفاعلة واستنفدت بنك أهدافها، ما زال في أيدي قوى الداخل اليمني أوراق عسكرية فاعلة وعدد كافٍ من الأهداف الحيوية. فالتطور الأخير المتمثِّل في استهداف قاعدة السليل الصاروخية جنوب الرياض بصاروخ «سكود» بعد أقل من شهر على استهداف قاعدة خميس مشيط، يؤكِّد على بقاء قدرة اليمن على توجيه ضربات عسكرية في العمق السعودي على امتداد خريطة المواقع الحيوية. ويعزز هذا التفوق العسكري الوضع التفاوضي لقوى الداخل اليمني التي تزحف بنجاح في اتجاه محاصرة الرياض في مسرح العملية السياسية، مستفيدة من تفوّقها العسكري ومستغلة، في الوقت ذاته، الأخطاء الناجمة عن إدارة الرياض لمسار الصراع، والتي أسفرت عن مضاعفة خطر التنظيمات الإرهابية على أمن اليمن والمنطقة واستقرارها، بالإضافة إلى كارثة إنسانية تقف على رؤوس 25 مليون يمني تفصلهم خطوة واحدة عن مجاعة وشيكة، بحسب المبعوث الأممي اسماعيل ولد الشيخ أحمد، وهو ما يشكِّل ضغطاً كبيراً على المجتمع الدولي لا مناص من الاستجابة له.
في ضوء ما سبق، تبدو خيارات الرياض محدودة، إما القبول بالعملية السياسية والبحث عن وسيلة إنقاذيه لتخليصها من مستنقع اليمن بصيغة تحفظ ماء وجهها، أو المكابرة والاستمرار في مغامرة غير مأمونة العواقب على النظام السعودي قد تكون تبعاتها اكثر كلفة عليه بكثير.