البساطة

البساطة

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٥ يوليو ٢٠١٤

هل للإنسان وقتان، ومال كافٍ لهما، فما الذي يستلزم الإنسان من كل أمر يحتاجه ويرتبط فيه، أليس عنواننا يدلنا على أن تيسير الأمور يفتح الآفاق أمام الناس كافة؛ حيث يرى التقدم والتطوير، فيسير فيهما وإليهما.. تسألنا الأفكار عن الوقت الماضي، هل بقي لدينا شيء منه في الحاضر كي نتعامل معه، هل هناك لنا فيه نصيب ما ينتظرنا في المستقبل؟.. طبعاً أقصد البساطة التي كانت تُدهش الآخرين المراقبين والمتابعين لحياتنا؛ حيث غدت صعبة المنال، لماذا؟ ولمَ لا نعترف أننا نحن من رَكّبنا حياتنا وعقّدناها بتسييسنا لها، واتجاهنا للتطلع للأعلى بدون وجه حق، وتخلّينا عن الكلمة الطيبة وصدق المشاعر، وغدونا أصحاب شكوة دائمة من الحياة ومن بعضنا في لحظة، وتألّم من حيث وصلنا؛ بعد أن تطالعنا حقيقة ما فعلناه لأنفسنا..؟ وإذا أردنا أن نتغيّر فما الذي ينبغي علينا فعله كي نغدو بسطاء القناعة والاهتمام والعلاقة الجيدة والقدوة الحسنة.
البساطة لا تعرف المستحيل؛ بكونها تؤمن بالأحلام الواقعية والمنطقية والبسيطة، وكذلك هي لا تخاف من الفشل، فينظر إليها القابعون في الأعلى ويحلمون بالنزول إليها من أبراجهم العاجية، ليست الأمنيات الكثيرة قابلة للتحقق، واحدة فقط تصل إليها، تمنح فرصة جديدة وأمنية أخرى، فما تحتاجه يأتي من جوهرك أولاً لأنه يسكنك، والذي يريده منك أن تثق به أولاً، ومن ثم عليك أن تراه ببصيرتك وتستمع إليه وهو يحادثك.
لم تعد البساطة مقنعة لأحد بعد أن تسطّح الفكر البشري، وأخذ يلاحق بعضه، وتحولت إلى شعار جميل دون تطبيق، وهذا يسري على مجمل الحياة الذي حوّل الطموح والعمل من أجل الوصول إليه إلى انقضاض على الطموح؛ إما بالقوة المفرطة أو المراوغة والمكر، ليتجاوز الجمع ثقافة الروح، ومفهوم الإيمان الذي تحدث عنه السيد المسيح قائلاً "كونوا بسطاء كالحمام وحكماء كالحيّات".. وكذلك نجدها في الإسلام الذي يسّر ولم يُعسّر حيث قال: من مصاديق اليسر؛ البساطة. وحتى أن أمير المؤمنين علياً عليه السلام وهو يحكم الأمم والبلدان وله ألف قاض وألف والٍ لم يضع حجراً على حجر (لم يبن بيتاً له)..،
إذن ، دعونا نبسِّط الأمور، فمهما كانت كبيرة وشائكة نستطيع معاً حلّها، والوصول إلى النتائج التي ترضي الجميع، لا بل أكثر من ذلك وتسرّهم، لنستخدمها؛ فهي مساحة صغيرة لا نريد أن نتدافع للوصول إليها، جميع الإنسان الناجح والفاشل، الغني والفقير، المحب والكاره، الكريم واللئيم، الظالم والمظلوم، الحر والمحكوم يحتاجها، فإذا كانت ضد المُركَّب وعكس المُعقَّد وبعيدة عن المبالغة والمباهاة وقريبة من كل الأشياء السهلة التي تقبع في متناول اليد ورؤية البصر... فلماذا لا نستعين بها؟! وطالما أننا نؤمن بأن ليس هناك ما يستحق من الدنيا أن نتّهمها بما ليست هي عليه، فإدراكها بأن الماضي ابتعد، والحاضر يفوت، والمستقبل ذاهبون إليه بحكم صيرورة الحياة وما بعده لا تفكر فيه، بكونه قادماً لا محالة إليك، فلماذا تقلق في نهارك وتتأرّق حينما يضمُّك إليه ليلُك، فامنح الأمل لليائسين، وقدِّم الحب للمنبوذين والمكروهين والكارهين، ساعد الحاقدين والحاسدين على الخلاص ممّا هم فيه، وأكرم الفقراء والمحتاجين..
البسطاء طيبون راضون لا يلومون أحداً، وهم على حالهم غير ملومين، لعلمهم أن الوقت ماضٍ إلى غير رجعة.. البساطة لا تندم حينما تسامح الآخر ولا تعتبره ضعفاً، فهو سرّ طبيعتها، وتصبِر فلا تأسف على صبرها، وتعترف بأنه ليس انهزاماً، وتظنّ بالجميع الظنّ الحسن، وتسير دائماً إلى الأمام، فمعرفتها أقوى من السذاجة، وحبها حقيقي تعتبره سرّها كي تبقى تليق بها.
البساطة تجمع بين الخير والجمال والاعتياد على امتلاك عناصر النجاح، فهي دلالة على الطيب الحقيقي المسكون في الإنسان، كما أنها ليست صعبة المنال، مفهومة للجميع على الرغم من معناها العميق، وأقوى أسرارها يُستدل عليه من حركتها وجمال نقائها، ودائماً وأبداً حينما نصل لحل المسائل المعقدة والشائكة نقول عنه: إنه بسيط، تستمع كثيراً لمن حولها، وتتحدث بما يخصّها، أصحابها صادقون وبغير مصالح، وعطاؤها طيِّب وبلا حدود، وحبها جميل.. لا تردّد، تتابعه فتجده من أحسن ما يكون، تعمل على الموجود، تؤمن بالواجد، وما انكسر تدرك أنه لا يصلح ولن يعود.. إنها تتمسك ببناء الأشياء الجميلة، تمنحها قيمة وجودها، تنتجها، تأخذ بها، تتداولها، تحملها معها، تُسَرُّ باستخدامها، لذلك تعتبرها نفيسة لأنها تلبي حاجتها عند طلبها، إنها تفْلق الصخر من باب وجودها بين القسْر والقهْر والعسْر واليسْر، فهي كالزهرة، تنتظر بفارغ الصبر، ظاهرها جميل وجوهرها راض وأمين، والحكم عليها صعب إن لم تتداخل بها وتتفاعل معها.
إنها شكل من أشكال العظمة الحقيقية لا النرجسية ولا التفاخرية، والوصول بها إلى الحقيقة أمر في غاية السهولة، والسبب هو الحب الذي تتمتّع به بشكل أفقي وعمودي كمحيط كروي، عينُها سامية تنظر بالرضى فلا تجزع ولا تيأس، وقلبها طاهر ونقي، متواضعة كتواضع المساكين، بالروح يحيا يومها بحلْوِهِ ومُرِّهِ؛ من باب إيمانها بأن الحياة هي على شاكلة الإنسان، وسطيّة لا تعرف التطرّف، تشاركية في الهموم والأحزان والأفراح والفوز والنجاح..
كل هذا يدلنا على أن الإنسان القوي ليس بسيطاً؛ إنما يصنع البساطة، فإذا آمن بها لم يسهل هزمه أو استغلاله، أليست هذه البساطة بسيطة؟!. 
د.نبيل طعمة