التفكير الفوضوي

التفكير الفوضوي

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٤ يونيو ٢٠١٤

لستُ جاهزاً لإسداء النصائح، وحينما أدخل إلى التأمل في حال الأحوال أجدني أكثر المحتاجين للنصح. هنا أنطلق من فهم معرفيٍّ حمَلَه القدر الذي يقول: "إنه من الأفضل لك كثيراً أن يرهبك الناس على أن يحبوك، فإذا حدث وأحبوك الْتهموك بحبهم ومن ثمّ رموك، وبعدها يتناسون أنك كنت حبّهم".
لذلك ينبغي وبشكل دائم أن تكون مقاتلاً حقيقياً، لكن من دون أدوات القتل والتدمير، بل بالكلمة القادمة من الحكمة المشكومة بالمنطق، والتي تتشكّل من خلالها معاني الطلقة بل الطلقات، لتنجب مولوداً فاعلاً ومؤثراً يعمل على إدارة الحياة بحنكة وموهبة وقيمة؛ تحدث القيامة وتكون مسؤولة عنها، فإذا نظرنا إلى الحقيقة، وعرفنا أنها أبسط ممّا نتصور، وأقرب إلينا مما نتخيّل على الرغم من أنها ظاهرة بعيدة المنال لحظة إرادتنا الوصول إليها أو التواصل معها، وأن هناك حواجز خطرة غير آمنة أو مؤمّنة تمنعنا من الالتقاء بها، عرفنا أن المشكلة تكمن في إحداث التغيير ضمن الاعتياد المملِّ والقاسي، المتحوِّل بمرور الزمن إلى مَقيت إن لم نحكِّم العدل ونبعد التطفيف بين أمورنا، أو نغيّر في الأشياء المحسوسة وغير المحسوسة.
كيف تُحسّن أداءك، حركتك، علاقاتك؟ كيف تنظر؛ ببصرك أم ببصيرتك؟ ما هو شكل علاقاتك، تقبّلك وقبولك، وقيمة الفعل أو الأفعال الجنسية. الاجتماعية. الاقتصادية. وحتى السياسية أو العسكرية؟ كيف تنظر إلى الآخر؟ وفي الوقت ذاته لا تنظر في الكيفية التي ينظر بها الآخر إليك!.
توافقْ، تتوافق، تعترض، تُعتَرض، أنت على الشاطئ، آمن. تحاكِ مَن يسكن جوهركَ. هل تسبح أم تغوص؟ تساعد حضورك، يساعدكَ الحضور، تؤذي، تنجح إلى حين؛ لكن من المؤكد أنك ستتأذّى أضعاف ما فعلت. مَن يجلدنا يخلّصنا، مَن يساعدنا حينما ننتصر؟ من يلزمنا في حياة؟ من يقرّر الموت؟ مؤكد ليس أنا ولا أنت.
الإشكال الإنساني التاريخي حول هذه القضية يبحث في الرحلة الطويلة والشاقة.. المصاعب مؤلمة والسلام قليل؛ فإذا ما امتلكناه جعل منّا مخلوقاً جديداً؟ هل تستطيع تذكّر نصفَ ما أمضيته من عمرك، وهل تقدر على الاعتراف بأن نصفه الآخر كان أحلاماً غير مؤكدة؟ إن غرقْنا فيها أضعنا النصف الأول ممّا أنجزناه.. من منّا لم يخن ذاك الذي أحبّه بفكره؟!. زوجاً، زوجةً، صديقاً، صديقةً، رفيقاً، رفيقةً، حبيباً، حبيبةً أم العكس، من منّا لم يحلم بممارسة العهر؟! ولو أنه مارسَه لكان وصل إلى حالات إبداعية.. لنناقش الفرق بين العهر والزنى والدعارة، طبعاً أستثني الندرة التي فعلت كل ما لا نتخيّله وما نتخيله، وتمتعت بجمال الوصل والاتصال، ومن ثم مَنعت، حَرّمت، حَلّلت، وأنجزت القوانين الوضعية لذلك.
ينتهي العشق بالانفصال، ينفلت الودّ الممسوك بين خافقات القلب، يبتعد الهيام، يختفي بين الرمال المتحركة، يتحوّل إلى حنين لتتحرّك محرّضات فعل النسيان، ينفلت الإنسان به إلى هوى، يستقبل من خلاله قادماً جديداً. ينبثق الأبيض من الأسود، يعود إليه، يدخل فيه بحكم أنه لا يحبّ الضوء، ينغمر بين جنباته، يظهر من جديد، يتألّق؛ فنحاول أن نقلّده، لا أن نبدع فيه.
تظهر القيامة من أعماق القذارة. المصلحون غالباً ما يدمّرون الأشياء الجميلة كي تبقى ذاكرة تُستعاد حينما تتوفر الفرصة لتظهر من جديد. لماذا نختبئ خلف عاداتنا السريّة ذكوراً وإناثاً؛ ونتخيل؟. أليس من أجل تحقيق ما لا نستطيع الوصول إليه مع الآخر أو الاعتراف به؟!.. من هم لصوص الحياة الحقيقيون، سارقو رغيف عيشهم من أجل الاستمرار فقط بدون وعي، أو أولئك المخمليون المتكدّسون من نتاج تلك الأقوات. هنا أسأل: على من يلقي العَسَس القبض؟!. من يُشعل النيران يحمل غاية واحدة هي الْتهام كل شيء. مَن يطفئها يتشظَّ بلهيبها. في النتيجة مَن المستفيد، وما هو دور المتفرجين؟!.
مَن يقدر أن يرسم مسار عيشه الإرادي أو اللاإرادي؟! ما معنى المتغيّرات الطارئة التي تأخذ بنا إلى الانحراف أو تعزيز مسارات الاستقامة؟ وهل أدرك أيٌّ منّا مساحة عيشه، ما معنى القصاص المتربّص في الخطيئة. من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر. كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون. معادلة نادرة، نادراً ما نعترف بها، تسكن جوهر الحياة. أدعو جميعنا لاستنباط فكر جديد منها. أمام عزم التسارع الحياتي الذي نلهث خلفه. تعالوا نعترف أن كامل تفكيرنا- وأياً كان منهجنا أو طريقنا أو مستوى حضورنا- يبقى ضمن طموح الخروج من الانتظام إلى الفوضويّة.. فالحياة المنتظمة تدغدغ مشاعرنا وتدعونا للتمرّد على انتظامها، وحينما نفعل نرتمي على سبل متاهاتها. هي كذلك، ومن دون ذلك لما كانت هنالك حياة، تعيث بين تلافيف فكرنا وتعبث في نبضات قلوبنا.
الشرف والواجب، أداتا تمييز الإنسان عن الحيوان.. ألم تمنحنا النتائج المشرِّفة لقب إنسان؟! إلّا أنها تحتاج دائماً إلى الإمساك بقوة بالمفهوم الدقيق للشرف والحكمة والجرأة؛ فإذا ما انفلتت هذه القيم منّا، انفلتنا وعدنا للتفكير الفوضوي، أي إلى شرعة الغاب.
د. نبيل طعمة