أديان مسيَّسة

أديان مسيَّسة

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٣ مايو ٢٠١٤

أم سياسات متدينة؟! تتفاعل مع مريديها، تتجوّل ضمن عقول شعوب الأرض، تأخذهم يمنة ويسرة، شمالاً وجنوباً، تتلاعب بهم بعد أن انفصلت عن جوهرها الرئيس موحِّد سِمة البشرية ومميِّزها عن باقي الأحياء، بحكم العقل الواعي الموجود في الرأس الإنساني، هذا وقد استطاعت بعد أن تسيّست أن تنشئ سياسات متدينة، تراوغ، أو تمارس، أو تنفّذ من خلالها أفعال السياسة الأمّ القابضة على "مثلث التابو" صاحب المحرَّم والمقدَّس، القابع بين المال والجنس والأديان.. وما يسود زمننا وعبر عقود مضت؛ وربما إلى عقود قادمة هو فعل التحكم بالشعوب؛ بعد أن تمّت السيطرة على الأديان السماوية والثقافية والوضعية والأفكار العلمية والفلسفية والبيئية وحتى الاجتماعية، كلّ هذا تصنعه السياسة صاحبة فن "إنتاج الممكن" بعد أن كان تعريفها: "فنّ حكم الشعوب"..
وحينما نتأمل الواقع ونتبحّر فيما يجري عليه؛ تدهشُنا النتائج وترعبُنا في آن.. لماذا؟
نسأل، ويسأل الكلّ عن عملية الفصل ضمن الإنسان، فصل بين مظهره وجوهره، ليغدو مجتنباً واقعه مبتعداً عن حقيقة وجوده كإنسان؛ أي: بين إيمانه المؤمن بإنسانيّة الإنسان وبين أديانه التي أصبحت صورته يعبث بمعانيها ومضامينها بعد أن فقد النظر إلى جوهره فسهُل عليه تشويهها أولاً، ومن ثم تشويه الآخر وبسهولة وسرعة فائقة، ما أدى ويؤدي إلى نشوب الصراع على التكوين المادي وإضعاف جوهره.. أكثر من ذلك العمل على عزله في الزوايا المظلمة من التكوين الإنساني، والغاية دائماً وأبداً إعادة برمجته وبحث مقتضيات الرؤى السياسية التي تقود من القمّة أو من خلفها أو من تحتها كامل العمليات التي تحتاجها الحياة بأجناسها وأنواعها، فكان من نتاج تسييسها حصول الصراعات فيما بين الأديان أولاً، وبين طوائف ومذاهب الدين الواحد ثانياً، ونفور المتديّنين من أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم ثالثاً، كما ينطبق هذا الحاصل على تشتّت الفكر السياسي الذي أنجب عقائد ناهضت الأديان أو توافقت معها، ومثَلُنا هنا الأيديولوجيا الشيوعية التي انحسرت بصراعها مع الأيديولوجيا الرأسمالية، وصراع  الأفكار الرأسمالية مع بعضها، والسبب عدم وجود ضوابط أخلاقية ضمن مبادئ أية عقيدة مستحدثة لتتشابه مع الألعاب السياسية.
عالم حاضر تسوده المتناقضات، يسأل عن وجوده في وجوده، هل للسياسة أن تتديّن؟ نقول: نعم، ممكن، بحكم أنها فنّ له أن يرتدي ما تريده الشعوب؛ مع الحفاظ على جوهره كقائد ومدير لها، أما أن يتمّ تسييس الأديان من قبل القائمين عليها، فهذه كارثة روحية، فتحوّلُ الدين إلى فنّ وممثل يعني تدمير القيم والمبادئ والأخلاق، أي إفراغ محتوى المنظور البشري من إنسانيّته.. وما يجري اليوم يشير إلى انخراط الأديان في العمليات السياسية وتسييس الأفكار الروحية، الأمر الذي أدى إلى إنجاب صراعات فكرية كبيرة أدت إلى تفكّك الوعي الديني؛ على الرغم من أن قيامة الإنسان منذ النشأة الأولى كانت على نظرية الصراع بين الحرية الإنسانية ومفاهيم العبودية للإله أو الإنسان السياسي، وإنّ تخلّيها عن شرح مفهوم الحرية الإنسانية المعزِّز لكسر نُظم العبودية أدخلها تحت عباءة السياسة، فذهبت بعيداً عن جوهر أفكارها، وغدت مطيعةً للسياسة ومطوِّعةً لمفاهيمها خدمة للغة الصراع الحياتي لا رغبة في إنهائه.
نسأل: هل الدين فكر أم منتَج روحي، وهل السياسة منتَج فكري، أم أنها نتاجُ وعُصارة مجموع القوى الفكرية؛ من مفردتها كان الدين والسياسة حالتين متلازمتين لم تفترقا عن بعضهما منذ النشأة الأولى، ولن تفترقا بحكم احتياجهما لبعضهما..؟؟
فالسياسة تعني إدارة المجتمعات مادياً ومعنوياً والبنى التحتية والفوقية، أي: إدارة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وقيادتها لها والتحكم بها؛ ليكون الدين الضابط للجوهر في المجموع البشري، وحافظاً له من الانفلات.. فلا التاريخ القديم ولا الحديث منحََنا صورة متفرّدة لأحدهما في قيادة أي مجتمع أو دولة حتى وإن كانت هناك محاولات؛ إلا أنها لم تنجح، وأقصد الجدلية المادية (النظام الشيوعي).
الآشوريون. والفينيقيون. والفرس. والفراعنة. والإغريق. والبوذيون. والهندوس. واليهود. والمسيحيون. والإسلام.. كلٌّ منهم مصطبغ بديانته وتقوده السياسة، ولم تُشر حركة التاريخ إلى أن قائداً لم يكن إلى جانبه كاهن ديني (من الكُهن) يدير الحالة الروحية إلى جانب الإدارة السياسية! فما معنى وجود كبير الكهنة أو الحاخام الأكبر أو البابا أو البطريرك أو أمير المؤمنين أو المفتين والأئمة إلى جانب النظام العالمي أو قيادات العوالم أو الملوك أو الرؤساء؟! وما معنى وجود الأنبياء والرسل والأولياء إلى جانب الإله الواحد الأحد؟! والفرق بين ما كان مما مضى وما في الحاضر: أنهما كانا ولا يزالان يخدمان بعضهما مع الحفاظ على هيبة كلِّ كيان منهما، فالرفيق الأعلى منح النبوّات من وحْيه قوةَ وقيمةَ الروح، ونظّم عبرهم ومن خلالهم فلسفة الأخلاق، وقاد الحياة الكلّية بدقة وانتظام، دون أن يتدخلوا بنُظم قيادته وإدارته لخلقه ومخلوقاته، والمقصود هنا أن السياسة الكلية القادمة من الكلي كانت وراء إيجاد حالتي المظهر والجوهر، وكلّما كانتا متصارحتين ومتصالحتين كان الخلق في حالة استقرار وتطور وتقدم ونجاح، وحينما تختلفان وتتصارعان وتخرجان عن قواعد المنظومة الكونية تذهبان إلى حالة من التضاد، وإلى انزلاق خطير ضمن مفاهيم العبودية، وإذا كان لكل منهما سياسة فلا ينبغي لهذه الثنائية أن تتداخل؛ بل أن تخدم البشرية بتحويلها إلى إنسانية، ساعتها يكلل النجاح هذه العملية الإنسانية، أما إن حاولتا استلاب سياسة بعضهما فإنهما تسعيان لدمار البشرية ودمارهما. 
إن شراكتهما التاريخية واقع لا يستطيع التاريخ إهماله أو تجاوزه، أما أن تتحولا إلى لغة الاشتباك ونشر فكر الصراع! فهو الخطير لحظة أن تتسّيس الأديان أو تتدين السياسات!! وفي الحالتين تكون العبودية لغة تعزيز الصراع بدلاً من السعي للاستقرار الذي يزيد في إنسانيّة الإنسان، وأيضاً إن استمرّتا ضمن محاولة استلاب بعضهما يزداد القتل والتدمير؛ من خلال تحويل الإنسان إلى أداة حرب لا تعرف إلا النهايات المأساوية، وإفناء حضوره وتحضّره وحضارته.
د.نبيل طعمة