التعليم والتجهيل

التعليم والتجهيل

افتتاحية الأزمنة

الجمعة، ٢٠ ديسمبر ٢٠١٣

اختطّ السوريون ومنذ حصولهم على دولتهم بعد جلاء المستعمر عام 1946 طريقاً نوعياً، يعزّز من حضور شخصيتهم الاستقلالية، وما كان على رأس أولوياتهم من القضاء على مساحة الجهل والتجهيل السائدة على جغرافيّتهم؛ المنحصرة بمسمّى الأمية الكتابية واللغوية والتعليمية والعلمية، وساروا قُدماً إلى الأمام، وانقسموا على أنفسهم بين النخبوية العلمية والفكرية والثقافية والسياسية؛ التي كانت حكراً على طبقة تدعى بـ "المجتمع المخملي" المتكون من أغنياء التجار والإقطاعيين والساسة والأرستقراطيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من سلالات نوعية؛ بل أكثر من ذلك نادرة، وحدثت الوحدة عام 1958 والانفصال عام 1961، وثورة العلم للجميع في 8 آذار 1963، ومرّ التعليم من مراحل المعرفة إلى التعليم إلى التربية، واشتُغل كثيراً على التعليم، وكان الهمّ الأول هو القضاء على الأمية التي تحمل كامل معاني الجهل القادم من كل المحاور، وكادت سورية أن تحتفل أسوة بالعالم المتقدم بانتهاء الأميّة الكتابية والخطابية، ووصلت نسبة التعليم إلى 95% والذي حدث وفي غمرة انتشار التعليم وأدواته: أنه وعلى مدار تلك الأعوام التي مرت ما تم القضاء على الجهل؛ فأصبحا كمتلازمتين تتعايشان مع بعضهما قسرياً..
وما إن تسلّق ما يسمى بالربيع العربي بدءاً من 2010 جَسَد الدول المتعلقة بالاتجاه إلى العلم حتى استفاق الجهل بقوة وتسارع، لم يكن ليتصوره أكثر المتشائمين من الوضع العربي؛ أو حتى أقلّ المتفائلين به؛ ليحصل التشابه بين الرّمد والعمى، على الرغم من القول السائد "إن الكحل أفضل من كليهما" وهذا يعني أن ما وصلنا إليه كان ضرورة أن نبدأ به من البداية وأشير في هذا المقام إلى التربية، وهنا أقصد أن التعليم العام أفضل من التعليم التخصّصي في حال سيطرة الجهل وسواد التجهيل، ولكنه تعليم معرفة ناقص، وكلاهما بدون تربية يؤديان إلى انفلات الأجيال، وما أنفقته سورية على العلم والتعليم ليس بالقليل وهو كثير؛ ولكن أيضاً ليس بمستوى التطور المنسوب، وما حصل ويحصل كشَف عن تلك الآليات التي كانت سائدة في التعليم، فلا امتلك العقل العلمية، وتاه بين امتلائه بالروح الغيبي والتعليم القسري، ولا وصلنا إلى العلم ولا إلى العلمانية، ولا فهمنا معنى اللامادي الروحي، ولذلك كانت الاختراقات سهلة، وكان البناء أقرب إلى الوهم في الرؤية، وحينما وصل إلينا حدث ما يشبه بالزلزال الفكري التعليمي، فها نحن اليوم أمام ملايين من العائدين إلى الأمّية من الأطفال والمراهقين والشباب: من رياض الأطفال إلى التعليم الأساسي إلى الجامعات، فمن هَجَرَ وهُجِّر ومن شَرَد وشُرّد، لنعود ونبحث عن المعرفة وعن التعليم، فمتى نصل إلى العلمية والعلمانية وفهم المنطق الذي لا يتهم العلمي العلماني بالإلحاد أو بالهرطقة والزندقة؛ أدوات التخلف التي تُستثمر الآن في الأزمة السورية.
50 -60 عاماً ليست بمستوى الطموح مرّت؛ لكن في الاعتراف وصلت إلى نتائج مُرضية، وما يجري اليوم وأمام حركة الملايين الخارجة من المعرفة والتعليم سنحتاج إلى مثلها كي نصل إلى ما كنّا عليه، وصحيح أن الإنسان السوري طموح وفاعل وبنّاء في الحياة، وهو من نوع فريد ومتفرّد بحكم المخزون الهائل من التراكم الحضاري والتاريخي؛ إلا أنه من الضروري الاعتراف بأن التخلّف مازال يغزو بقوة بوادينا وأريافنا؛ بل أكثر من ذلك مدننا.. فالتعليم الذي كان وما يزال يغزو فكرنا هو التعليم الوظيفي، حتى وإن وصل المتعلم إلى أعلى درجات العلمية فالاستثمار فيه وظيفي، أي: إن الشهادة تمنح له مكانة مادية يستطيع من خلالها الحصول على زوجة جميلة ومنزل أنيق وسيارة - ربما تكون فارهة- وادّخار مصرفي..
 نحن في واقع صورته اللاعلمية تعتلي صهوة التعليم، ولذلك من السهولة بمكان اختراق هذا الواقع الهش فكرياً ومادياً وغزوه زمانياً ومكانياً، هو عاجز عن الإبداع، وتقدمه بطيء، والتطور فيه شكلي مظهري استهلاكي، والوطنية رداء والولاء إناء خاوٍ، والأداء غير مقنع، والبناء مفتقد للغة الإنهاء الجمالي، تحت مقولة "مقبول ويؤدي الغرض"..
هي هكذا، ازدواجية التعليم والتجهيل في آن، والتي كشفت عن مظاهر الخلل الكبير في البنية الاجتماعية العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص، وما يُراد من الذي نتحدث عنه هو استحضار فائض الوعي، والانتباه بأننا ننتقل إلى سورية جديدة حديثة متطورة.. كما نأمل ونحلم نحن السوريين في الوصول إلى امتلاكها حقيقة لا وهماً وإيماناً بها أرضاً وإنساناً واقعاً معاشاً مقنعاً بحضوره ومقنعاً للآخر.. فالعودة إلى التعليم ليس واقعاً فقط؛ بل ضرورة، وأن يشمل العلم التخصصي الذي يُنجز البناء على أسس واقعية وجمالية؛ تُظهر حاجته وفعاليته، وتدعو للنظر إليه من أجل التمتع به.
إذن، التاريخ السوري الحديث ومنذ الاستقلال بدأ بالمعارف وتطور إلى التعليم وأنهى حضوره بالتربية.. في وقت كان أحرى به أن يبدأ بالتربية، ومن ثم التعليم وصولاً إلى المعارف، وهنا تكمن مفارقة ما وصلنا إليه الآن ولجميعنا أن يتفكر. 
 د.نبيل طعمة