سوريون يركبون البحر.. نحو المجهول!

سوريون يركبون البحر.. نحو المجهول!

أخبار سورية

الجمعة، ٢٥ يوليو ٢٠١٤

لم يتوقف غرق اللاجئين الهاربين في «قوارب الموت» إلى إيطاليا. تنشر «السفير» الجزء الثاني من حكاية عائلة سورية ركبت أحد تلك القوارب، لتترك ليبيا، بعدما انسدّ الأفق أمامها هناك.
العائلة المكونة من زوجين شابين وأطفالهما الثلاثة غادرت في حزيران الماضي. فضّل الأب أن تبقى هويته مجهولة. هنا سيواصل سرد حكايتهم، بعد مقابلة مطولة معه. ننقلها بلسانه، وكما رواها:
في البداية لم يمكننا رؤية أحد ممن كان معنا. الانطلاق دائما يكون في الظلام، ولا يشعلون أي أضواء. بعدما نقلتنا الزوارق المطاطية من الشاطئ الليبي إلى القارب، أبحرنا لمدة أربع ساعات في العتمة.
قالوا لنا ثماني ساعات ونكون في المياه الاقليمية. كان زورقنا يبحر بسرعة تقدر بحوالي 15 كيلومترا في الساعة. فجأة تعطل المحرك. انقطع حزام «طرمبة» الماء التي تبرّده. اتصل سائق القارب بالمهربين. تركوا معه جهاز «ثريا» للاتصال بخفر السواحل الايطالي عندما نصل، وجهاز «جي بي إس» ليعرف الوجهة. قالوا له دبّر حالك. وجد رباطا ليشدّ به المحرك. أصبحنا نبحر بسرعة خمسة كيلومترات في الساعة.
بعد سبع ساعات تقريبا رأينا سفينة صيد صغيرة. لوحّنا لها. أعطونا حزاما للمروحة، وماء. قبل أن نسافر قال لنا المهربون إنه سيكون في «جرافة السمك»، التي وعدونا بها، ماء وحمام. لم نر أي شيء من ذلك. غالبية الناس خرجت من دون ماء. كنت محظوظا لأني تحسبت لذلك.
بالنسبة للأولاد، لم يعد هناك أولاد. لم يصحوا (يستفيقوا). كانوا يشربون الماء ويستفرغون (يتقيأون). لم يكن نوما، كانت دوخة وغثيانا.
وإضافة إلى السوريين، كان على القارب مصريون، توانسة، مغاربة، وأفارقة. المسؤولون عن الإبحار كانوا من تونس، ريّس (قائد) الزورق ومعه خمسة أشخاص. هؤلاء قالوا إنهم موجودون للتنظيم. اكتشفنا خلال الرحلة مهمتهم. كانوا موجودين من أجل الاريتريين القابعين في الأسفل. صحيح أننا شارطنا المهربين ألا يحمل القارب أكثر من 200 شخص، لكنهم وضعوا 150 زيادة. أيضا وضعوا حوالي 80 شخصا في غرفة المحرك. إنها غرفة كبيرة في طابق سفلي، في مؤخرة القارب. مساحتها حوالى 12 مترا مربعا. هناك يضعون الأفارقة، وغالبيتهم من اريتريا وبينهم حوامل. كان في داخل الغرفة أيضا عشرة شباب سوريين. عرفنا لاحقا أن التسعيرة أقل لمن يسافر فيها.
للغرفة فتحتان، وبجانبهما يقف التونسيون. خلال السفر، تصبح الحرارة شديدة داخلها، يتبلل من فيها بالماء، لذلك لا يتحملون الوضع ويحاولون الخروج. التونسيون كانوا ينتظرون مع العصي، ويضربون بعنف كل من يحاول الخروج. كان معهم سكاكين، وطوال الرحلة لم يتوقفوا عن الشتم والكفر. كانوا يضربون على الرأس. فعلوا ذلك مع امرأة حامل ومع شباب. (تكررت حوادث وصول جثث على القوارب، خاصة لأفارقة، وقبل أيام وصلت 19 جثة لأشخاص ماتوا اختناقا).
بعد ساعات تعطّل جهاز الـ«جي بي إس». عاد المسؤول عن المركب ليتصل بالمهربين ويسألهم ماذا يفعل. خلال هذه المشاكل فهمنا أنه شخص عادي، لا ريّس ولا قبطان ولا شيء. كان يريد السفر من دون أن يدفع. أعطوه نقودا، قال لنا إنها ألفا دولار، ودرّبوه عدة أيام. فكرت أن هذا منطقي، فكل بضعة أيام ينطلق أربعة أو خمسة قوارب، فمن أين يأتون بقبطان كل يوم.
لحسن الحظ كان هناك شخص سوري معه جهاز «آي فون» فيه «جي بي إس». مشينا (أبحرنا) على جهازه. بعد أربع أو خمس ساعات نفدت بطارية الـ«آي فون». اتصل السائق بالمهربين مجددا. لكن جهاز «الثريا» لم يعد يعمل. يبدو أنهم وضعوا فيه رصيدا محددا، وانتهى. وقتها أخبرنا السائق بصريح العبارة. قال لنا: الآن لم نعد نريد الوصول إلى ايطاليا، فقط نريد النجاة وإيجاد أي أحد لينقذنا. حينها أصبح صوت الناس يعلو بالدعاء. رجال أصبحوا يبكون.
استمر الوضع هكذا حتى قبل مغيب الشمس بقليل. فجأة رأينا نارا وسط البحر. كان يبدو كأنه خط غاز أو نفط. قلنا له أن يبحر باتجاه النار. خلال مسيرنا رأينا أضواء بعيدة تقترب منا. صرنا (بدأنا) نشير لها. كان معنا سوريون جلبوا معهم مصباح، لا أعرف ما هو، لكن ضوءه قوي. قبل أن نرى النار كانوا يوجهون ضوءه إلى أي شيء يتحرك، ليلفتوا الانتباه إلينا. وجهوه مرة إلى طائرة ركاب كانت فوقنا في السماء.
الضوء الذي اقترب منا كان لمركب صيد تونسي. كان أعلى من قاربنا وأطول منه بقليل. قبطانه كان شخصا محترما. قال إنه لا يستطيع نقل أحد إلى المركب، لأنه سيحدث تدافع وربما نغرق جميعا. طمأننا، وقال إنه سيوزع ماء على الجميع. الناس كانوا عطشانين (عطاشى)، وحصل بعض التدافع. أصبح يهدئهم ويحذرهم من أنهم إذا لم يهدأوا فسينقلب القارب.
كانت الساعة قد قاربت العاشرة مساء. الجميع مرهق ومبلل. تحدث الرجل إلى خفر السواحل الايطالي. قال لهم إن قاربنا سيئ جدا. أخبره الخفر بأن أمامنا 8 ساعات لنصل. طلبوا منه أن يبحر معنا، وهذا ما حصل.
ونحن نبحر خلفه لم تتوقف الشجارات، معظمها حول الماء. الناس لم تعد تحتمل بعضها بعضا. التونسيون والمغاربة تشاجروا. الأفارقة في غرفة المحرك نفد صبرهم. رغم كل الضرب، استطاع أحدهم الخروج من الفتحة. خرج كأنه شخص متوحش. كان مدمّى من الضرب. وجد في طريقه طفلا، فرماه جانبا. الله ستر أن الناس أمسكوه.
المشاجرة الأكبر حصلت من أجل مكعبات السكر. كان أحد التوانسة يجلس في مكان مرتفع ويرميها، ويقول أعطوها للأولاد المرميين على الأرض. كان الجميع يريدون التقاطها. الأولاد لم يكن أحد منهم مستيقظا.
مشينا (أبحرنا) خلف الصياد التونسي حتى السابعة صباحا تقريبا. توقفنا بعدما اتصل به خفر السواحل، وقالوا إنهم قادمون. وصلت هليكوبتر وحلقت حولنا لمدة خمس دقائق. أصبح الناس يتفرجون على الدلافين من حولنا. كنا مبتلين، لأن الماء لم يتوقف عن رشقنا طوال السفر. رأينا بارجة حربية تقترب. وقفت بعيدة عنا حوالى 400 متر. وقفت أمامنا من دون حراك لمدة نصف ساعة.
كانت الساعة وقتها قد اقتربت من التاسعة صباحا. أحسسنا بهذه النصف ساعة وكأنها عشر ساعات. كنا نقول لبعضنا البعض إنهم تأخروا. أخذوا يصورون ولم نعرف إن كانوا سيأتون أم لا. أصبحنا نشك ونتساءل: لماذا جاءت الطائرة (الطوافة) من دون أن تلقي لنا ماء أو طعاما أو أي شيء.
بعد نصف ساعة أصبحنا نرى حركة فوق البارجة، ثم انطلق زورق باتجاهنا. كان يلتف حولنا ويصورنا. بعدها بدأت القوارب تأتي مع ستر النجاة. كل زورق مطاطي كان يتسع لسبعة أو ثمانية أشخاص، ينقلون مجموعة ويعودون. نقلوا الأولاد والأطفال أولا. استمر ذلك حتى الثامنة مساء.
سائق قاربنا رجونا ألا نقول شيئا عن أنه هو من قاد الرحلة. كنت أقول في نفسي إني سأفضحهم، لكن قلبي لم يطاوعني. كلنا قلنا للايطاليين إن المهربين قادوا الرحلة وعادوا في قارب آخر. سمعنا أن الايطاليين يدمرون عادة القوارب التي تصل. لكن القارب الذي جئنا فيه أعطوه للصياد التونسي. جره خلف مركبه وهو عائد.
على البارجة انتشر ممرضون وأطباء، أعطونا ثيابا واهتموا بعلاج الأطفال. قالوا لنا إننا سنبيت الليلة في مكاننا، لأنه ربما تصل زوارق أخرى. في يوم وصولنا نفسه، وصلت أيضا ثلاثة قوارب. كان ذلك واضحا من الازدحام الشديد فوق سطح البارجة. كان هناك برد شديد. عندما رأوا أن حال الأولاد تسوء، قرروا في الثالثة فجرا أن نذهب إلى جزيرة لامبيدوزا.
وصلنا إلى لامبيدوزا تقريبا عند الساعة السادسة صباحا. قالوا لهم هناك إنه لا مكان لوضعنا فيه، لأن أربعة زوارق وصلت قبلنا. اتجهت بنا البارجة إلى صقليا. وصلنا بعد الظهر، وكان بانتظارنا الصليب الأحمر. كنا تقريبا ألف شخص. من مرفأ صقلية أسعفوا أطفالا والحوامل. أخذونا إلى مركز تجميع. نمنا يوما، وغادرنا صباحا في طائرات صغيرة إلى روما. من هناك وزعتنا باصات على عدة مراكز للاجئين.
تنقلنا بين عدة أماكن في إيطاليا. لم نرد البقاء هناك. كنا نفس مجموعة العائلات السورية التي سافرت من ليبيا. بعضنا أراد الذهاب باتجاه هولندا وآخرون إلى السويد. نحن اتجهنا إلى المانيا. تنقلنا بين مراكز تجميع اللاجئين في عدة مدن، والآن فرزونا على مدينة قرب هولندا.
لم نكن نتوقع ما سنعيشه ونراه في ليبيا. لقد كانت أسوأ من تجربة البحر. اخترنا ركوب البحر لأنه لم يعد هناك مكان آخر يمكننا الذهاب إليه. أما الصورة التي لن أنساها فهي كيف كانوا يعاملون الأفارقة على القارب. لم أكن أتوقع أني سأرى هذا في حياتي. ضايقني تعامل المهربين مع الأفارقة أكثر من هيجان البحر.
لن أنسى الثلاثين ساعة التي قضيناها في الرحلة البحرية. من البداية أحسست أني أخطأت. لم نكن نتوقع الخطورة هكذا. لم أترك شخصا إلا وحذرته. قلت لأحد أصحابي: الأفضل لك أن تبقى في ليبيا، وأن تموت هناك، ولا تطلع في البحر. على الأقل أقنعتهم. هناك إذا ماتوا سيقول الناس: الله يرحمهم. على الأقل لن يقولوا: قتلوا أولادهم، الله لا يسامحهم.
الشباب الذين حذرتهم اقتنعوا مني. أرسلت لهم صورا ومقطع فيديو. حدثتهم عن الخوف الذي يعيش فيك ويكبر ساعة بعد ساعة. حدثتهم عن تعذيب الضمير، خاصة المتزوجين منهم. قلت لهم أنا لن أسامح نفسي أبدا. حتى لو عشت مثل ملك لن أسامح نفسي. بعدما وصلت بقيت أسبوعا أستفيق على كوابيس. كنت أرى الزورق يغرق، وأصرخ لأن ابني سيغرق في الماء.
حينما انطلقنا من ليبيا لم أخبر أحدا من العائلة. كان ذلك قراري، ولم أرد لأحد منهم أن يعلم أو يقلق. اتصلت بهم حين وصلت. طوال رحلتنا في القارب لم ألتقط أي صور. لم أكن أعرف أننا سنعيش. بعدما أصبحنا على البارجة الايطالية عادت لي الروح، وأصبحت أصور بالموبايل. كان الايطاليون قد نقلوا نصفنا تقريبا، الباقون كانوا ينتظرون دورهم.