ليس كل من يتسوّل فقيرا”.. تحوّل صارخ في الأدبيات الاجتماعية تحت جنح الأزمة.. استثمار الظروف باستدرار العطف

ليس كل من يتسوّل فقيرا”.. تحوّل صارخ في الأدبيات الاجتماعية تحت جنح الأزمة.. استثمار الظروف باستدرار العطف

أخبار سورية

الأحد، ٤ ديسمبر ٢٠١٦

فاجأتني بيدها الصغيرة الضاربة على نافذة السيارة، وكان ذلك في ساعة متأخرة من الليل، لتطلب مني ثمن طعام لها ولإخوتها الصغار، حسبما كانت تدعي، وبالحوار معها اكتشفت أنها اعتادت منذ الصغر على القيام بهذه المهمة التي علّمتها إياها أمها المطلقة، حيث ترسل أولادها الخمسة كل يوم سعياً وراء لقيمات العيش التي يتراوح مردودها ما بين 10 و15 ألف ليرة يومياً، وهو مجموع ما يحصل عليه أطفالها الذين أتقنوا مهنتهم، وكيفية الحصول على رزقهم، وطبعاً عندما طلبنا من هذه الطفلة أخذنا إلى بيتها للتعرف على أسرتها، كان هروبها أبلغ إجابة عن واقعها الحقيقي!.
وللأسف بات ظاهراً للعيان أينما تجوّلت في شوارع المدينة وساحاتها وأحيائها ذلك المشهد المألوف لأشخاص يفترشون الأرصفة، والزوايا، ومداخل الأبنية، وعلى أدراج الجسور، تراهم يطوفون بهيئتهم الحزينة، وحالهم التي يرثى لها، يستغيثونك الحسنة مهما تكن لتسديد شيء من عوزهم، ويبادلونك بالأدعية والتمنيات بالتوفيق والنجاح لك ولعائلتك!.
هذا المشهد ليس من فيلم، أو مسلسل درامي، وإنما هو حال أيامنا هذه، فظاهرة التسول قد ازدادت مؤخراً وبشكل كبير، فما من مسجد، أو جسر، أو إشارة مرور، إلا وهناك محتاج يمد يده للمارة، وللسيارات يسأل المساعدة، أو يبيع أشياء لا قيمة لها، ولا يحتاجها أحد في كثير من الأحيان!.
إجراءات حكومية
ورغم أن هذه الظاهرة قد منعت من قبل الحكومة ووزاراتها المختصة، حيث تم سن القوانين ذات الصلة لمكافحتها، ومنع التسول، ومن ذلك أحكام القانون /16/ لعام 1975 القاضي بإحداث دور ومكاتب لمكافحة التسول والتشرد، ومن ثم العمل على وضع المتسولين في الدور المخصصة لهذا الغرض، مثال على ذلك دار تشغيل المتسولين والمتشردين الكائنة في  الكسوة، لتتم حماية هؤلاء من الانحراف، وإعدادهم وتهيئتهم، ومن ثم إطلاقهم ليكونوا عناصر فاعلين في المجتمع، وبالرغم من كل ذلك لا تزال هذه الظاهرة مستمرة وفي تزايد، وملحوظة بشكل كبير في الفترة الأخيرة، وخاصة في ظل الظروف الحالية، فضلاً عن حالات الاحتيال الكثيرة، بعد أن أصبح التسول عملاً بحد ذاته امتهنه الكثيرون ممن وجدوا في استجداء عطف الناس سبيلاً لتحقيق ربح سريع متغافلين عن الكرامة الإنسانية وعزة النفس.

دور الأسرة
تلعب الأسرة دوراً كبيراً في هذا المضمار، حيث إن التفكك الأسري بكل تسمياته الناجم عن الظروف الحالية، والمشاكل العائلية المستمرة والمعقدة، والعدد الكبير لأفراد الأسرة في ظل وضع اقتصادي ضعيف أو معدم، ودون وجود دخل يكفي لسد أدنى الحاجات، وغيرها من العوامل التي قد تدفع بأطفال هذه الأسر للخروج إلى الشوارع وامتهان التسول، وخصوصاً أن الطفولة يكون لها الأثر الأكبر في قلوب المواطنين، ومن هنا يصعب على المواطن العادي أن يميز بين طفل متسول محتاج أو شيخ هرم يطلب المساعدة، وبين طفل مرغم على التسول من قبل أهله أو أشخاص وظفوه لهذا الغرض، مستغلين حاجته أو ظروفه القاسية.

جانب إنساني
الشخص العادي تحركه مشاعره وعواطفه حينما يرى طفلاً أو امرأة أو رجلاً يطلب حسنة ما، ويدور في خلده أن الله أوجب علينا مساعدة الفقراء والمحتاجين، وأنه بذلك يدفع زكاة بيته وأطفاله، فيبادر إلى إعطاء ما يستطيع لكنه لايدري حقيقة من استجداه، وهل هو صاحب حاجة حقيقية أم أنه محتال، وخصوصاً أننا سمعنا عن كثير من حالات كان المواطن فيها فريسة الاحتيال تحت ستار التسول والحاجة.

آراء المواطنين
لدى سؤال العديد من المواطنين عن هذه الظاهرة، أبدى غالبيتهم الاستياء من المتسولين، بالرغم من تعاطفهم، وخاصة مع الأطفال، لكنهم اشتكوا من إلحاح المتسولين وملاحقتهم لمسافات طويلة، حتى يضطر المواطن لإعطائهم أي شيء للتخلص منهم، أو خوفاً من أن تنقلب دعوات المتسولين لدعاء حاقد عليه وعلى أسرته.
ويقول العديد من المواطنين أن أغلب المتسولين من الرجال يكونون بحالة جسدية جيدة تسمح لهم بالعمل أياً كان هذا العمل، متسائلين عن الأسباب التي تمنعهم من العمل بدلاً من التسول ؟؟!..
ومن جانب آخر، ولدى سؤال عدد من الأطفال المتسولين بالقرب من إشارات المرور وقرب المساجد وفي الحدائق العامة، قال بعضهم إن ذويهم يرغمونهم على التسول واستجداء عطف الناس، وآخرون قالوا إنهم أيتام الأب أو الأم ولا معيل لهم، آخذين بالعلم أن هناك أشخاصاً يستغلون الأطفال ويدفعونهم للتسول وهذه الظاهرة في غاية الخطورة، وآثارها تنعكس سلباً على المجتمع وعلى الطفل نفسه لما تلحقه بشخصيته من تشوه، وتجعله فريسة سهلة للمجرمين الذين يستغلون ظروفه بكل أشكال الانحراف، فلو نظرنا لشريحة الأطفال التي نراها في الشوارع والساحات، نجد أن القسم الأكبر منهم إناث ومن مختلف الفئات العمرية، وهنا تكمن الخطورة، حيث إن بقاءهن في الشوارع وتعرضهن للكثير من التحرشات والكلمات البذيئة، فضلاً عن محاولات ضعاف النفوس استدراجهن بمختلف المغريات، واستغلال الوضع المادي السيئ لهن، وبالتالي استخدامهن في أعمال الدعارة والملاهي الليلية، وخاصة أن بيئة الشارع وفي ظل انعدام التوجيه الأسري والدور التعليمي للمدرسة، وفي غياب البيئة الملائمة لنمو الفتيات والخصوصية المرافقة لبلوغهن ودخولهن سن المراهقة، في غياب كل ما ذكر، تلعب بيئة الشارع دوراً سلبياً من خلال احتكاك الفتيات بمجتمع قاس يؤدي لتشويه الشخصية والإحساس الكبير بالنقص، وانعدام الأمان، وتركيز الاهتمام لديهن على الجانب المادي لشعورهن بالحاجة، وهنا يتم الاحتيال عليهن من قبل أشخاص يدعون الطيبة في البداية والرغبة في الستر عليهن، ليقوموا لاحقاً باستغلالهن بمختلف الأعمال اللاأخلاقية. وهناك الكثير من الأبحاث والتقارير التي تؤكد هذه المعلومات، وهذا كله ينعكس سلباً على التكوين المجتمعي، حيث يؤدي ذلك لظهور فئات مجتمعية تعمل على استقطاب الشباب الفتي نحو الانحراف والابتعاد عن القيم الأخلاقية، ومن هنا نتبين الخطر الكبير المرافق لتسول الفتيات، أو طوافهن في الشوارع لبيع أشياء لا يحتاجها أغلب المواطنين، ولذلك يصبح من الضروري الوصول لحلول حاسمة لهذه الظاهرة.

دور الجمعيات الأهلية والخيرية
تلعب الجمعيات الخيرية والأهلية الدور الفعال إلى جانب الوزارات والمؤسسات المختصة في مساعدة الناس والحد من ظاهرة التسول، سواء بالحد من الانتشار العبثي للمتسولين في الشوارع وتقديم العون لهم، أو من خلال الإسهام في مساعدة ذويهم بتأمين العمل أو المساعدات المادية، حيث تقوم هذه الجمعيات وبعد جمع التبرعات من مختلف المصادر، بإحصاء الأسر والأشخاص المحتاجين، ومن ثم العمل على التوزيع العادل وبما يضمن الستر لهذه العائلات وإبعادها عن شبح التسول، حسب ماأكده لنا العديد من القائمين على الجمعيات الخيرية، الذين أكدوا أن الكثير من حالات التسول التي تمارس في جميع الأماكن تندرج تحت عنوان الاحتيال على الناس، وبالرغم من أن أحوال العائلات وظروفها وقصصها كثيرة، وهناك الآلاف من المحتاجين ممن قست عليهم الدنيا، ودفعتهم للتسول بعد أن جربوا كل البدائل، إلا أن انتشار المحتالين وامتهانهم التسول زاد الطين بلة.

في المحصلة
تبقى هذه الظاهرة، أياً تكن الدواعي والأسباب، سلبية من كل الجوانب وتتطلب عملاً متكاملاً، وإيجاد حلول جذرية وناجعة للتخلص منها سعياً نحو مجتمع مثالي مكتنز بالأخلاق.
المحرر