الريف والمدينة .. بقلم: د.نبيل طعمة

الريف والمدينة .. بقلم: د.نبيل طعمة

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٢٤ ديسمبر ٢٠١٤

 يجسدان لغة تصارع حقيقية بين التخلف والتقدم، بين المادي واللامادي، بين البنى التحتية والفوقية، بين اللحية الدينية والمذهبية والطائفية وأدوات حلاقتها وجمالها المدني ووجودها العقلاني، هذه الحالات هي اختصاص منظومة دول العالم الثالث برمته، تشابهٌ إلى حد التطابق، والمستغرب فيه تمايز العالم العربي والإسلامي، وبشكل خاص الشخصية الإسلامية المحضة، التي ورغم تطورها العلمي وحصولها على أعلى الشهادات ووصولها قمم المراتب إلا أنها لم تستطع تطوير جوهرها، حيث بقي ريفياً صحراوياً قبلياً عشائرياً بدوياً روحياً غيبياً طائفياً، دون معرفة لفلسفة الحب الإنساني، وانحصارها ضمن منظومة الخوف والحب الإلهي والنبوي، والسبب الأول والأخير طبعاً يعود إلى المتشكل المدني الذي أخذ الصورة، وجميعنا يعلم أن المدنية صُنعت على ضفاف الأنهار بين الزهور والثمار والبوادي والقفار، وحينما اصطبغت بصبغة الإنسان الذي انسلخ عنها وبدلاً من أن يعود إلى تطوير بيئته الأولى التي هيأته لصناعة المدنية بعد إنشاء المدن نجده عمل على زيادة تخلفها، معتبراً إياها خزانه البشري الذي يستخدمه كأدوات في القتال والصراع والتأييد ورفض الآخر أو إقصائه ضمن ألعاب ما يسمى الديمقراطية وكثافتها الشعبية والشعبوية، وجماهيرها العاملة والفالحة للأرض المريفة بلا مدنية، والمتمدنة بلا ريفية، فكثيراً ما يعتقد المدنيون أنهم قادرون على إنشاء ريفهم الخاص الذي يتقوقعون فيه بعد أن يسيّجوه ويحصّنوه، يمارسون فيه شهوات ونزوات الحياة حباً ريفياً ظاهراً دون الذهاب إليه أو البحث عن معاناته، طبعاً أقصد بالمزارع الخاصة والبساتين حال مدنيي عالمنا العربي والإسلامي، ويُستثمر فيها الريفيون كأدوات في الفلاحة والزراعة والتقليم والري والخدمات التحتية.
لماذا ندخل ضمن هذه العلاقة الجدلية، ولندقق في الطبيعة الفكرية للشخصية العربية الإسلامية، ولنطابق ما نتحدث به مع الواقع المدني، أو ما يطلق عليه كذلك، ولنسأل جميعنا هل حقاً امتلكنا مدنية؟ وإذا كان هناك من يجيبنا بنعم؛ فهل تعني المدنية المَلبس والمَأكل والمَسكن والخدمات؟ إم إنها جينٌ يزرع في الدم، وتحضرٌ يُبنى ضمن الداخل الإنساني ليدلنا مظهره على أن جوهره مدني، طبعاً الحركة والسكون، الفعل والانفعال، النظرية والتطبيق، وإذا دققنا ومحّصنا وتصارحنا نجد أن عالمنا العربي الإسلامي لم يصل حتى اللحظة لأبسط قواعد وأسس المدنية، نسأل بعضنا عن كمية الفائدة من الفكرة المدنية، حيث نستدل من خلالها على حجم وقوة حضورها، أو عدمه، أو نسبيتها، والدليل أن الذي يجري تحت مسمى الربيع العربي ما هو إلا صراع غريزي شهواني بين مفهومي الريفي والمدني، أي إنها حرب ضمن منظومة العالمين العربي والإسلامي تظهر في ناتجها النهائي بين قرويين وفلاحين وبدو ومتصحرين لم يصلوا حتى اللحظة لأي صيغة من صيغ المدنية، بحكم أنهم مازالوا هشيماً ينتظر شرارة من الآخر، ومثلنا حرب داحس والغبراء، وأيضاً أعود إلى الدليل لأن الذي بنى المدينة اِعتقد أنه مدنيٌ فراح يزيد في جهل الريفي والقروي والبدوي وتجاهل إلى حدٍّ كبير تقديم الخدمات الحقيقية له ورفع مستواه الفكري والمادي، معتقداً أن مدنيته ينبغي أن يحافظ عليها ويعززها من باب سيطرة الأنا، لم يستطع حتى أن يُقلد عالم الشمال، إنّما استطاع وكما تحدثت أن يبني قصوراً فارهة ومزارع غناء ومساكن عامرة ضمن بيئات المدن، لكنها في حقيقتها ما هي إلا تكبر وتذمر عن ريفية وقروية معدمة، وظل إصراره على أن يكون مدنياً حتى ضمن بيئته الريفية، وبقي الريفيون والقرويون ينظرون إليه على أنه قروي وريفي مثله مثلهم تماماً، يستمتعون بما يعلمون، ويحقدون ويحسدون على المدنية والمدنيين.
في عالم الشمال عندما اتجه الريفيون لبناء المدن وإنشاء المدنية الأولى وبعد أن أظهروها على وجه الأرض عادوا مباشرة لتمدين الأرياف، حيث غدت مدنية الأرياف طموح أبناء المدن، والذي حدث في عالم الجنوب وعوالمنا العربية من إسلامية وبدلاً من أن تنتقل الأفكار التي انتشرت عالمياً حول الفكرة الأولى للمدنية، والتي لم نستفد منها سوى لغة نتناقلها دون أي واقعية، أو تحويلها بشكل ما إلى واقعي، فكانت خسائرنا الزمنية كبيرة، والرقمية أكبر، والمشاهدة كارثية، فغزا الريف المدن، وغزته المدنية بِجُلها بدلاً من أن يحصل العكس، وطالما كان هكذا اجتمع الصنف الواحد والذي انقسم على نفسه وتمرد على بعضه، فكان قتالاً عنيفاً مرعباً وذريعاً، عنف حتى الموت، الكلُّ يستحضر إلهه يقاتل فيه ويدفع به غيبياً عن نفسه، أو يعتبر وجوده قرباناً له دون وعي لفلسفة الحياة والبقاء تحت مسمى مفهوم العيش والصراع من أجله وأجل الإله المنتج له، الرئيس الأحد الصمد خارج كل تلك المعادلات، إنّما الكلُّ يستثمر فيه، فحينما أنتج الكون ضمن المنظومة الروحية الغيبية عرف إنتاجه من البداية حتى النهاية وقال فيهم سيق أهل النار إلى النار وسيق أهل الجنة إلى الجنة، وأوجد العقل حاضن الفكر كي يبدع ويتمايز في إبداعه حتى بين جنسه شريطة أن يرتقي إلى صيغ المدنية الخلاقة، والتي تؤمن بضرورة تشارك الإنسان مع أخيه الإنسان، لأن العالم البشري برمته قَدِمَ من الأرياف حيث لم تكن المدن، ويوثّق المقدس ما نتحدث به من خلال جنان عدن وبساتين الأرض وصحاريها وبحارها، غاباتها وجبالها، واستعمار الإنسان فيها، أي إن ضرورة فهم إعمار الأرض من منطق المدنية والريفية، فلا يمكن لهذه أن تحيا بلا تلك، ولا تلك بلا هذه، فلماذا نسينا هذه المعادلة المقدسة والنظرية المادية، ولا أقصد الجدلية الخلقية، وحتى فليكن التي أنجزت فكرة المدنية وتعاونت معها من أجل الحفاظ على الصورة مكتملة لا مشوهة، على حين نحن ضمن عوالمنا الإسلامية مازلنا ندور بحثاً ولهاثاً حول السؤال الكبير الصغير في آنٍ؛ هل نحن مدنيون أم ريفيون أم قرويون؟ يقاتل بعضنا بعضاً ولم نرتوِ حتى اللحظة من هذا الصراع، الذي ما أن يهدأ ويبدأ البنيان حتى يثور كبركان لا يبقي ولا يذر، لنعود من جديد إلى رحلة البحث عن البناء والبقاء، فأي بناء نبني مادمنا لم نستوعب أنّنا قادمون من الريف؟ فإن تمدننا غير سليم، وأول واجباتنا إعادة تمدين الريف قبل أن يستبيحنا من جديد ونضطر لاستباحته، فنكون في جبهة واحدة نقاتل بعضنا مدى الحياة.