بين التفكير والتكفير ..د.نبيل طعمة : سورية ستنتصر على التكفير وداعمته العثمانية والوهابية

بين التفكير والتكفير ..د.نبيل طعمة : سورية ستنتصر على التكفير وداعمته العثمانية والوهابية

ثقافة

الخميس، ٢٧ مارس ٢٠١٤


بدعوة من المجلس المركزي لرابطة المحاربين القدماء ألقى الدكتور نبيل طعمة رئيس تحرير مجلة الأزمنة -  عضو اتحاد الكتاب العرب صباح اليوم محاضرة بعنوان :‏ ( بين التفكير والتكفير ) في قاعة المحاضرات في مبنى الرابطة بالسبكي .
وبدأ د. طعمة محاضرته بالقول: من خلق ليزحف لا يستحق الطيران ولا يقدر عليه، نحن أصل الاشياء لا فورد باق فوق إيوانه ولا رابين من خلال قصيدة نزار التي قال فيها :
أتراها تحبني ميسون ... أم توهمت والنساء ظنون
كم رسول أرسلته لأبيها ... ذبحته تحت النقاب العيون
يا ابنة العم والهوى أموي ... كيف أخفي الهوى وكيف أبين
علمينا الأفعال قد ذبحتنا ... أحرف الجر والكلام العجين
علمينا قراءة البرق والرعد ... فنصف اللغات وحل وطين
علمينا التفكير لا نصر يرجى ... حينما الشعب كله سردين
إن أقصى ما يغضب الله فكر ... دجنوه وكاتب عنين
وطني، يا قصيدة النار والورد ... تغنت بما صنعت القرون
إن نهر التاريخ ينبع في الشام ... أيلغي التريخ طرح هجين
نحن أصل الأشياء لا فورد باق ... فوق إيوانه ولا رابين
نحن عكا ونحن كرمل حيفا ... وجبال الجليل واللطرون
كل ليمونة ستنجب طفلا ... ومحال أن ينتهي الليمون
إركبي الشمس يا دمشق حصانا ... ولك الله حافظ و أمين
ومن قصيدة شآم من ديوان خواطر شعرية لـ د.نبيل طعمة
يا شآم أنتِ ..أنت ِ
التي أسماكِ  اللهُ
التينَ ...
وأقسمَ بكِ قَبلَ الزيتونِ
والطورِ ..والبلدِ الأمينِ
يا كُلَّ المدائنِ ..في مدينهْ
زارك خير الورى
محمد
ودعا لكِ ...
يا شآم


السوريون صنعوا التاريخ
وأضاف د. طعمة : السوريون أسهموا عبر كافة الحقب الزمانية في صناعة التاريخ بقوة، وجميعهم كانوا سادة تملؤهم النخوة والمروءة وقيم العدالة والتسامح، وأدركوا بعلومهم بأن الوسطية لغة جمْع ونبْع حياة وصيغة حب، وعلموا وتعلّموا أن من يخذل السادة هم العبيد، ومحيطنا التاريخي وُسِم بالتابع، والتابع عبدٌ، لذلك كانوا واستمروا على ما هم عليه، فماذا برأيكم نرتجي منهم وهم على شاكلتهم..؟! إن السيد الحر المؤمن بوطنه لا يُكَفِّر ولا يُكفر وجميع السوريين كذلك 
أبدأ من حيث لم تُثبت النظريات البحثية حتى اللحظة؛ أن هناك أنواعاً من البشر والبشرية من أساسها إلى أسِّها - وأقصد هنا التكاثر- تنوعت وتلوّنت؛ لكن صورتها الكلية واحدة، والفرق فيما بينها تنوعُ فكرها وأفكارها، ومنه كانت الخلافات والاختلافات التي أنجبت التطور المادي المتنوع؛ كتنوّع فكر البشر (والمقولة الشائعة: إن الإله الكلي حينما وزّع الأرزاق لم يقنع أحداً؛ لكنه عندما أعطى العقول كلٌّ رضي به رغم عدم توافق البعض معه)  مما أفادها ويفيدها، وأتى الإسلام السمح ليعزّز هذا القول عبر رسالته "اختلاف الأمة رحمة، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"..
أدخل مباشرة إلى عمق عنواننا، معرفاً إياه بأنه ضد "التفكير" وينبغي على جميعنا التمييز بين الكفر الذي يخص الفرد كعلاقة تخص المعتقد أياً كان شكله روحي أو أيدلوجي أو فكرة وبين التكفير عن الخطايا المسكونة في الذات والمرتكبة ضد الآخر والتكفير الممنهج للمجموع العام بين المذاهب أو الطوائف أو الأديان حيث أن المتعلقين به يُشار إليه بأنهم المنحصرون ضمن زوايا مغلقة ومظلمة، فاقدوا التطلّع إلى الأمام، أي إلى المستقبل، وكذلك غير عارفين لمعاني أسباب وجوده كمفهوم إنسان والرسالة المنوطة بهم التي عليهم أن يقدموها أثناء مسيرتهم إلى الحياة؛ التي تنادي بإنسانية الإنسان، حيث يكمن بها بناء الإنسانية التي لا تعترف بالفردية، تؤمن بالعمل الجماعي والتنوع الجمالي، الذي لا يمكن له أن يظهر إلا من خلال التعاون.. لذلك نجد أن كلمتي التكفير والوهابية متلازمتان، الأولى تعني الثانية والعكس صحيح، فقد ارتبطتا معاً، فغدتا قاعدة خلق العداوة الرديئة، الحاملة لغاية واحدة؛ ألا وهي اصطياد إيمان الإنسان بالحياة، أي: اصطياد الإنسان لأخيه الإنسان، وإنشاء فرقةٍ وتشرذمٍ في تكوينه المادي والروحي، هاتان الكلمتان اللتان حملتا رايات إعادة الأمتين العربية والإسلامية إلى الوراء، وتبنّتا عداوة التقدم والتطور، حيث حَرَّمتا كل أنواع الجمال الإنساني، وأسكنتا فكر معتنقيها العداوة والبغضاء للحياة.
من هنا أدخل لأقول: إن الله كلّي الوجود، محيط كامل، لا يمكن لأيٍّ كان أن يجزِّئه أو يستأثر به، وحينما ننطق بأن الله رب العالمين ينبغي علينا أن نتفكر أنه للعالمين، والعالَمَيْن العلوي والسفلي، أي: للخير والشر، للإيمان والكفر، فهو رب آدم وإبليس معاً، وكذلك هو للعُلماء به، أي بجوهر وجوده، إذ يشير المقدس إلى خشية العلماء منه، والخشية أعلى مراتب الحب، بينما الخوف يختص بالمنفّذين.. ومنه نجد أن المقصود بالعالمين هم: البشرية جمعاء بأديانها وإثنيّاتها: طوائفها ومذاهبها، فكيف لدين أو طائفة أو مذهب أو مجموعة أن تستأثر به؟ وهل الله يخصّ المسلمين فقط؟ وكذلك هل يخص أو يتخصص بفئة منهم؟ وهل هو إله للسُّنة فقط أو لمجموعة فكرية ضمن أهل السنة؟ أو للشيعة أو الإسماعيليين أو العلويين؟ وكذلك أيضاً ما في الديانات الأخرى من طوائف، وهل الجنان خصّت المسلمين فقط، والنار خصت الآخَرين؟ إن الله والأديان، وبشكل خاص الديانة السمحة براءٌ من كل من يعتقد بخصوصية الألوهية والجنان وملكيتها الحصرية لهم، لذلك كان إيمان التكفيريين والوهابيين: بأن الجنان تخصّهم وحدهم لا يصلونها إلا عبر أفواه بنادقهم ومن حدود نصال حرابهم وشعاراتهم التكبيرية (الله أكبر) .

اجتهاد المكفّرين ونتاجهم
التكفير بدأ من صدر الإسلام الذي استشعر قوة وقيمة المبادئ، فذهب مباشرة إلى الوراء، ونقله فوراً إلى الأمام معتبراً العروبة الحقيقية التي كانت قائمة قبل الإسلام جاهليةً. خطرةً. كافرةً. ووثنية، رغم قول الرسول الكريم محمد عليه السلام "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. فمن يحق له أن يكفِّر بعد هذا القول؟ ومن ذا الذي يعتبر أن الطهارة تكون بماء وتراب، ولا يؤمن بطهارة الروح والوجدان؟ وأقول "لا يغسل البحرُ روحاً بل يغسل الجثمان" وهذا دليل حق في الإيمان، وأقصد هنا قول: هلّا شققت عن قلبه، وهنا يكمن كامل التفكير إن تفكّرنا فيمن يفكّر ومن يكفِّر، فالرحمة تخصّ العالَم المنتِج أجمَع والمؤمن بحقيقة الوجود المتجسدة في إنسانية الإنسان، والفكر المنجَز من التفكير يوجِّه إلى الرحمة من منتجه، أما القسوة فهي ديدن المكفِّر يحصرها ضمنه، فلا يرى إلا من خلال ما حمَله، معتقداً أن كلّ من حوله كافر وجب تقويته بسلاح التكفير: أولاً، وأولاً، رافضاً الحوار القلبي واللّساني العقلي، غير مؤمن بأن الإنسان بأصغريه: قلبه ولسانه، صاحبي الإيمان والعقل للغة التطور الإنسانية.
لماذا نتحدث في هذا؟ من أجل استحضار الوعي وتقديمه للمنحصرين ضمن الأفكار الدينية الضيّقة، فالتكفير يخصّ ويختصّ به فئة قليلة، والوهابية أيضاً ينطبق عليها ما ينطبق على التكفير والمكفِّرين، فكيف يكفِّر إنسانٌ أخاه الإنسان؟! كيف يقتله باسم الدين؛ يذبحه من الوريد إلى الوريد وهو يهتف باسم الله؟! كيف يكبِّر عليه وهو ينهيه قتلاً وتشويهاً وينادي بأن الله أكبر؟! كيف يستأثر بالله وحده؟! وأنه يموت من أجل أن يلاقي الله، ويصافح الرسول ليتناول الطعام معه، ويدخل إلى جنان الخلد الموعود بها؛ لينفلت هناك على عشرات من حوريات الجنة، ويجلس إلى أنهار الخمر، ويطوف الغلمان حوله؟! هل عند الله في جنانه كلّ هذا المُجون؟! هل يعقل لأي عاقل أن يقتنع بأن هذا صحيح؟!!..

التكفير على عداوة مع التفكير
أعود لفكرة أن التكفير على عداوة خطيرة مع التفكير، فإذا ما فكّر الإنسان وتفكَّر في جمال الله، وتذوّق معنى الجمال، عرف أنه جميل، وأن الله جميل موجود في كلِّية الوجود: في الشجر والبشر والحجر والطير والنبات والماء والسماء، وما بينهما، وظهرت له الأحياء بمجموعها على أنها مكمِّلات لأسباب وجوده من أسباب وجودها.
الرسول العربي عليه السلام خاطب الكافرين وليس المكفِّرين ولا التكفيريين بأن قال لهم: لكم دينكم ولي دين، والكفر هنا يخصّ الأديان حصراً، أي: من الممكن أن يكفُر الإنسان بدينه، وأن يعتنق ديناً آخر، أو مذهباً آخر، أو أن لا يدخل في دين، معلناً رأيه الصريح بعدم الدخول فيه. وبهذا لا نستطيع، ولا أحد يستطيع أن يجبره على الاعتناق أو الاعتقاد بهذه الديانة أو تلك، بكونها رأياً فكرياً ناتجاً عن عملية قبول أو رفض، أما التكفيري؛ فذاك الذي يكفِّر الآخر حتى في اعتناقه واعتقاده أو خلله في تنفيذ معتقده، فإذا كان لا يصلي أو لا يصوم أو لم يحج؛ هل يقدر أحدٌ كائناً من كان أن ينعته بالكفر، أو أنه اعتنق مذهباً أو انتمى إلى طائفة تحت مظلة الإسلام بطوائفه وتعدّده وتنوعه، وفي المسيحية كذلك، وحتى اليهودية ثلاثية مقدس الأديان.. فكيف بنا نكفِّر بعضنا؟!..
وإذا ما أردنا أن ندقق فيما يجري على الساحتين العربية والإسلامية، وما بين هاتين الساحتين والساحات العالمية.. فللأسف؛ سنجد أن التكفير اختصاص فئة إسلامية حصرياً، اختص بها المذهب الوهابي مع حركة الإسلام السياسي المتجسد في الإخوان المسلمين، وهاتان الفئتان اعتقدتا أن لهما الحق في السيطرة على العالم العربي؛ الذي غدا عوالم، والإسلامي بحكم وجود هذا الآخر بين عوالم تاريخية..

الوهابية التكفيرية
ضمن مسار هاتين المتلازمتين نسأل بعضنا عن المذهب الأخير؛ ألا وهو الوهابية الذي يحاولون من خلاله إلغاء ثقافة وإيمان المذاهب السنية الأربعة الأخرى (الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية) ومعها الجعفرية والإباضية والزيدية.. لقد اجتهد الغرب الإنكليزي منذ بدايات القرن السابع عشر على شخصية تدعى "محمد بن عبد الوهاب" المتحول فيما بعد إلى مؤسّس لهذا المذهب، والإرادة المبتغاة منه تدمير الفكر الإسلامي الوسطي السمح، ومحو الآخر، بإرهابه عبر تعاليم متشددة وخطرة جداً، ليس فقط على الفكر الإسلامي وإنما على العالم أجمع، وكثيراً ما تجولنا فكرياً لنفهم مضمون هذا الفكر وأسباب حضوره ضمن العالَمين العربي والإسلامي! وإذا ما عدنا إلى مذكرات "مستر همفري" سنجد التعاليم المقدمة لهذا الفكر والذي أُسِّس عليها ضمن شروط بُنّدت؛ وهي التي يشتغل عليها منذ ثلاثة قرون أي مع قيامة العالم الجديد في أمريكا عام 1776 وحتى اللحظة، وهذه البنود هي:
1-     تكفير كل المسلمين وإباحة قتلهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم وبيعهم في أسواق النخاسة، وجعلهم عبيداً ونسائهم جواري.
2-     هدم الكعبة باسم أنها آثار وثنية إن أمكن ومنع الناس من الحج وإغراء القبائل بسلب الحجاج وقتلهم.
3-     السعي لخلع طاعة الخليفة، والإغراء لمحاربته وتجهيز الجيوش لذلك، ومن اللازم أيضاً محاربة (أشراف الحجاز) بكل الوسائل الممكنة، والتقليل من نفوذهم.
4-     هدم القباب والأضرحة والأماكن المقدسة عند المسلمين في مكة والمدينة وسائر البلاد التي يمكنه ذلك فيها باسم أنها وثنية وشرك، والاستهانة بشخصية النبي (محمد) وخلفائه ورجال الإسلام بما يتيسر.
5-     نشر الفوضى والإرهاب في البلاد حسب ما يمكنه ذلك.
6-     نشر قرآن فيه التعديل الذي ثبت في الأحاديث من زيادة ونقيصة."
هذا المذهب أنجب صراعاً خطيراً أيضاً بينه وبين الإسلامويين القدامى، والذين استباحوا العالَمين العربي والإسلامي تحت شعار العثمانيين، وقتلوا ملك الوهابين السعوديين وقطعوا رأسه في ساحة آيا صوفيا مقابل قصر حدائق السرايا بعد جره ذليلاً في شوارع اسطنبول لثلاثة أيام ومن ثم قطعوا رأسه ووضعوه على فوهة مدفع وأطلقوا الرأس هشيماً ووضعوا جسده على الخازوق وكتبوا عليه تركيا فوق الجميع هذه الوثيق من كتاب الرحالة الشهير ( روتير) الذي وثق هذه الحادثة في كتابة رحلة من تلبيس إلى اسطنبول وصف خلالها مشهد إعدام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز أخر حكام الدولة السعودية الأولى ( دولة آل مقرن ) أما محمد بن عبد الوهاب المتأثر بآراء ابن تيمية والمنشق عنه ومنشأ مذهب الوهابية وعنوانه ( محاربة أهل الضلال والبدع )، وأيضاً سيق ابن عبد الوهاب إلى اسطنبول وقطع رأسه فيها على الرغم من أنهم  يقولون بأن وفاته كانت في إمارة الدرعية ومنه نكتشف ويتجسّد لنا الآن ذلك الصراع القديم الحديث بين مذهبي الإسلاموية السياسية والوهابية الملَكية، والرابطة الجامعة والوحيدة بينهما هي تكفير الآخر وإرهابه؛ تحت مسمى الخروج عن الفقه والشريعة والتفسير، والغاية الرئيسة هي ما ورد في وثيقة جاسوس ما وراء المستعمرات البريطانية: إبقاء العالَمين العربي والإسلامي في حالة تخلف وتقهقر ورجوع إلى الوراء؛ كلما حاولت عوالمهم الإمساك بنواصي التقدم والعلم الحقيقي.
متلازمتان تكالبتا على وطننا الغالي سورية؛ على فسيفسائه ولوحته الجميلة المتنوعة والمتعددة والمتألّقة، صاحبة منشأ ومبدأ العروبة وحاضنتها وقلبها النابض، كلمتان شكّلتا فكّي الكماشة الإسلاموية السياسية بتياريها التكفيري الشيطاني والوهابية بفلسفة هدمها للقيم والمبادئ، وشرعة الديانة المحمدية الحقّة والسمحة وفقهها النبيل.
تشكلت الوهابية ضمن الحاضنة العثمانية التكفيرية؛ رغم وقوع الوهابية هذه تحت سيطرة الاحتلال العثماني؛ الذي سيطر على العالَمين العربي والإسلامي لأربعمئة عام ونيّف، خلّفت في ذينك العالَمين التخلف والشرذمة، وفي كنف الاحتلال العثماني كانت اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور الذي قسّم العالَمين العربي والإسلامي إلى عشرات العوالم، وزرعت الأحقاد الطائفية والمذهبية والإثنية تحت نير ذلك الاستعمار العثماني، الذي خلّف وتخلّف عالمُه مع تلك العوالم.. ومن ذاكرة التاريخ الحديث فقط نستحضر: أن سياسة التطهير العرقي والديني كانت قد بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر، حيث وضعت أسس القتل الجماعي للأرمن في أعوام 1894-1895، وفي مدينة سالونيك اليونانية عقد حزب الاتحاد والترقي عام 1910 اجتماعاً سرياً أقرّ فيه مبدأ سيادة العنصر العثماني على الشعوب الأخرى غير الإسلامية، وبشكل خاص غير السّنة، وتحقيق ذلك بكافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة، ونادى بأن تزال كافة اللغات غير التركية وتتريك العناصر بالرغبة أو بالإبادة حين الرفض بقوة السلاح هكذا كانت تلك الرؤية التي اعتبرت حلاً لمسألة القوميات، ومن خلال مقرراته كان اضطهاد وتهجير المسلمين الأكراد، والطوائف المسيحية، والطوائف غير السّنية إلى المناطق الجنوبية "سورية التاريخية"، وفُرضت عليهم قوانين التمييز والضرائب، وتم قتلهم وحرقهم دون رادع تحت حجة الذود عن الإسلام من الكفار، وكانت ذروة التصفيات العرقية في عام 1915 حيث قُتل ما يقرب من مليون ونصف المليون أرمني وسرياني وآشوري، وهُجِّر الباقي إلى سورية بشكل خاص، ولبنان والعراق بشكل عام، وكذلك أنجزت الوهابية الملكية السعودية نظام طرد وتهجير كامل الديانات الأخرى من أراضيها، ومنْع تواجدهم فيها، وهي تحت مظلة السلطنة العثمانية، وهذا ما يمنحنا التفكير الجدي في نظم إنشاء التكفير الممنهج والمبرمج من قبل فكي الكماشة؛ اللتين ما فتئتا تعملان تحت أجنحة الغرب الأورو أميركي الصهيوني، وتخدمانه خدمة العبيد لأسيادهم.

لماذا سورية
كان الاستقلال الأول لسورية عام 1918 حينما رُفع العلم العربي في دمشق عن الدولة العثمانية التي لم تكن تُعرف في حينها بالدولة التركية، واستقلت أيضاً مرة ثانية عن الملكية الفيصلية الهاشمية، وقاومت الاستعمار الفرنسي، وحققت الجلاء الكلي عام 1946، واتجهت مباشرة لبناء مقومات الدولة الحديثة؛ إلا أن الفكر التحريضي التكفيري الوهابي الحاقد على سورية وغيرها من الدول- التي نهجت نهجها وحَملت العروبة وقيمها الساعية إلى بناء الهرم الاجتماعي بتنوعه وتعدّده؛ لم يدعها لتهنأ بالاستقلال ما دفعه إلى إحداث الاضطرابات والانقلابات؛ إلى أن استقرت وأخذت شكل دولة حداثوية، تؤمن بالماضي كتراث والحاضر كمعبر من أجل الحضور في المستقبل، وهذا لم يرُق للتكفيريين الوهابيين وأسيادهم، فكان أن شهدنا ما شهدناه تحت مسمّى الربيع العربي الذي بدأ مع ولوجنا الألفية الثالثة من بغداد وانهيارها، والسودان وتقسيمه، وتونس ومصر وليبيا واليمن، والتمركز النهائي كان في دمشق سورية بكونها المركز الدقيق والحقيقي لحضور الأمة العربية برمتها، وأيضاً مركزاً حقيقياً للديانة المحمدية السمحة المتجلية فيها وسطية المؤمنين المسلمين.. لنرى أن التقاطع بين كل ما تحدثنا به هو دمشق؛ التي لم يقدروا حتى اللحظة على زحزحة قيَمها وقاماتها شعباً وأرضاً، حكومة وقيادة، وإيماناً عميقاً بجوهر إنسانية الإنسان وعملاً استثنائياً راقياً، فيه حضور الكل المؤمن، ورفض التكفير والتكفيريين والوهابية والوهابيين، والصهيونية والمتصهينين.. جميعهم يجتهدون من أجل تعزيز لغة عنواننا واستمرار سيطرته على مجتمعاتنا العلمية والعلمانية؛ المؤمنة بحقيقة وجود الواجد والموجود، والتعاون فيما بين الجميع يؤدي إلى الخلاص.

أخيراً
أختم من تاريخ سورية العميق، نبع العروبة المنساب من سفينة نوح الراسية على جبل الجودي؛ الذي هو جزء من حدود سورية "الكتلة التاريخية" أي جزء من جبال طوروس منجبة عشتار الأم السورية الكبرى؛ التي وصل أبناؤها إلى صحراء النفوذ وأطلقوا عليها "الجزيرة العربية"؛ التي أتى مَن حوَّلها إلى مملكة وهابية بالتوافق ما بين آل مقرن (آل سعود حالياً) وآل عبد الوهاب، وإنجاز مذهب الوهابية الذي أرادوه ديناً جديداً، يمسح الديانة المحمدية الإسلامية السمحة وإحلال ديانتهم التكفيرية.. سورية التي تقف كسيف يتصدى لما أراده الإسلامويون العثمانيون القدامى الجدد والوهابيون الملكيون السعوديون والمتفقون فيما بينهم.
بعد أن شرحنا بعجالة، وفنّدنا فكرهم التكفيري الملتقي والمتفق مع صهيونية العالم الجديد على إعادة العالَمين العربي والإسلامي ما بين الفينة والأخرى لا إلى الصفر فقط؛ بل إلى ما تحته، معتبرين أن نجاحهم يمنحهم درجات أفضل عند من يأتمرون بأمرهم، وهذا لن يتحقق طالما أن هناك سورية بشعبها المؤمن بجوهر الأديان، وحضور الإسلام الوسطي؛ المتأمّل بأن ما يجري على ساحتها رغم قسوته منتهٍ وسورية منتصرة، فالإله الكلّي مع شعبها المتنوع والمتعدد، وجمال عَقْده الفريد المتربع على لوحته الفسيفسائية النادرة منتصرٌ وخارج من محنته، عائد لدوره الريادي والقيادي للعروبة والإسلام، فالإسلام لولا الشام دمشق لمَا انتشر في العالم أجمع، وكذلك المسيحية لولا دمشق أولاً عاصمة الشرق كلّه، وأنطاكيا العاصمة المخلوقة لها ضمن الاسكندرون وكيليكيا السورية؛ أيضاً لمَا تربعت على عرش العالمية من خلال بولس الرسول، لذلك كانت وستبقى أبد الدهر محمية من إرادة الإله الكلّي وشعبها وقائدها.