دار بلدية دمشق

دار بلدية دمشق

ثقافة

السبت، ١ مارس ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني
تعتبر الأبنية الأثرية جزءاً من حضارة أي مدينة، تكتنز التاريخ وتشهد على الوقائع، وتشهد على معلومات كثيرة عن الحضارة، وهذه الأبنية والمعالم الأثرية تعطينا معلومات ضرورية ومهمة عن الإنسان والزمان والمكان.. وعليه ينظر بذلك إلى سياسة المحافظة على هذه الأبنية الأثرية، باعتبار أن لها ارتباطاً كبيراً بماضي الشعوب والأمم من حيث قيمها الاجتماعية والثقافية والمعمارية وتعد في آخر المطاف انعكاس حقيقياً للإشعاع الثقافي والحضاري كظاهرة مشتركة بين البشرية جمعاء.. وهنا نتساءل: هل حافظنا نحن على أبنيتنا التاريخية والأثرية؟ وقد يكون الجواب كماً هائلاً من دموع الحزن والأسى!
لقد عبقت دمشق بالأبنية التراثية الهامة منها ما اندثر على مر الأيام بفعل الطبيعة ومنها بفعل أذى الإنسان، وساحة المرجة العريقة كانت فيما مضى مقراً للعديد من هذه الأبنية التي طالتها يد الإنسان وهدمتها؟!

ساحة المرجة:
من أشهر الساحات العربية وأعرقها فالقادم إلى دمشق لا تكتمل زيارته إن لم تكن "المرجة" محطة من محطاته، ساحة المرجة سجل حافل لأفراح وأتراح سورية والعرب، ساحة المرجة كانت عبر السنوات الماضية مقراً وممراً لرجالات العالم وحكامه ومستعمرية وشعرائه وأدبائه.. ساحة المرجة تختزن في جنباتها الكثير من الصور والذكريات والأحداث التي ارتبطت بتاريخ دمشق والعرب وكانت أبنيتها شاهداً على تاريخ طويل عريض، تكتنزه من مراحل تاريخية حاسمة شهدت عليها الساحة عبر ذكريات الأزمان المختلفة والمتنوعة.
ساحة المرجة أخذت على مرّ السنوات والأيام عدة أسماء تبعاً للظروف السياسية والطبيعية والاجتماعية، ففي زمن كان فيه نهر بردى يتفرع في هذه الساحة إلى فرعين ويحتضن بينهما جزيرة صغيرة خضراء وكانت مقصداً للناس أيام الجُمع والراحة كان اسم الساحة، بين النهرين، أو الجزيرة، وبعد تغطية نهر بردى عام 1866م أطلق عليها ساحة العدلية، أو ساحة البريد والبرق، وفي عام 1895م أطلق عليها اسم الميدان الكبير، أو ساحة السرايا، وحين قام العثماني أحمد جمال باشا الملقب بالسفاح بإعدام الشهداء السوريين شنقاً في هذه الساحة يوم 6 أيار عام 1916م أطلق عليها اسم ساحة الشهداء، ولكن الاسم الشهير والمتداول بين الناس هو ساحة المرجة..
في ساحة المرجة كان هنالك بناء جميل عريق شهد العديد من الأحداث الجسام التي مرت على بلادنا وكان شاهداً على استقلال بلاد الشام عن الدولة العثمانية وفي الخمسينات من القرن الماضي وتنفيذاً لما يسمى مخطط ايكوشار فقد هُدم بناء دار بلدية دمشق؟؟!!

دار بلدية دمشق:
مبنى دار بلدية دمشق من الأمثلة الصارخة على اعتدائنا على تراثنا وحضارتنا وذاكرتنا الوطنية، مبنى البلدية كان في ساحة المرجة مع العديد من الأبنية التراثية الهامة كمبنى العدلية، والبريد والبرق، ومبنى الطبابة، وسينما زهرة دمشق "مقهى وسينما ومسرح زهرة دمشق" وقصر والي دمشق كنج يوسف باشا، وأكبر مساجد دمشق يلبغا الذي شيده الأمير "يلبغا اليحياوي" نائب السلطنة المملوكي بدمشق.. ولم يبق من الأبنية التراثية الهامة ضمن ساحة المرجة سوى بناء العابد الشهير والذي يعاني من الهرم وسكرات الموت!
تم تشييد دار البلدية في الجهة الغربية من الساحة، على أرض تعود ملكيتها لآل الشرابي وعلى أغلب الظن بين عامي 1896 – 1898 في عهد ولاية حسين ناظم باشا الأولى على دمشق.
كان البناء آية من الجمال المعماري، ويمكن القول إنه شُيد على الطراز المعماري الكلاسيكي الحديث، الذي كان قد انتشر في فرنسا آنذاك وهو طراز معماري مطور عن الطراز الروماني القديم، وهو دليل على أن المعماريين الأجانب قد نقلوا إلى دمشق الطراز المعماري الذي كان سائداً في بلادهم، والمختلف عن الطراز الذي عرفته دمشق في بناء قصر العظم في سوق البزورية، وقصر كنج في ساحة المرجة.
كان مبنى دار بلدية دمشق مشيداً على طراز العمارة الأوروبية، ومن خلال الصور القديمة الكثيرة للمبنى نستطيع ملاحظة تأثير العمارة الأوربية على البناء من خلال شكل الأقواس ذات الانحناءات البسيطة فوق النوافذ، وكذلك في طراز الشرفة الرئيسية للمبنى المحمولة على أعمدة.. والدارس لفن العمارة اليونانية القديمة يلحظ لمسات إغريقية في بناء الدار.
في الزمن العثماني كان يتوسط الواجهة الأمامية للبناء شعار الدولة العثمانية العلية (الهلال والنجمة) الذي يرمز للامتداد الجغرافي للإمبراطورية العثمانية على شكل هلال من أوروبا شمالاً، إلى الشرق الأوسط وإفريقيا جنوباً، أما النجمة فترمز إلى جزيرة قبرص.
وفي زمن الحكومة العربية الأولى أو الحكومة الفيصلية " 1918- 1920م تم إزالة الشعار العثماني ووضع بدلاً منه نقش يمثل سطوع الشمس "الشمس الساطعة" وقيل إن هذا النقش لا يرمز إلى أي شيء بل هو جمالي فقط، وقيل بل كان نقشاً كناية عن شمس الحرية الساطعة، بل خروج العثمانيين من دمشق.

الشاهد:
دار البلدية كانت شاهداً على أحداث جسام عصفت ببلادنا، ومنها حدثٌ عاشته بلاد الشام، ألا وهو استقلال بلاد الشام عن الدولة العثمانية، فمن شُرفة دار بلدية دمشق أعلن عزة دروزه (وهو فلسطيني الجنسية) يوم 8 آذار من عام 1920، قرار المؤتمر السوري (البرلمان آنذاك) باستقلال سورية (بحدودها الطبيعية وهي سورية الحالية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن) عن السلطنة العثمانية على الجماهير المحتشدة التي جاءت من كافة أنحاء بلاد الشام"، وفي نفس اليوم "8 آذار 1920م" وفي بهو بلدية دمشق تم تتويج الأمير فيصل ملكاً دستورياً على سورية.
وكان أن اجتمع يوم 27 أيلول عام 1918 في بهو دار البلدية أعيان ورجالات بلاد الشام وقرروا إقامة حكومة مؤقتة ريثما يصل ما سُمي آنذاك بالجيش العربي بقيادة الأمير فيصل بن الحسين إليها.
وكان علم الثورة العربية الكبرى والمعروف باسم «العلم العربي أول مرة يرفع في سماء بلاد الشام يوم 30 أيلول من عام 1918 قبيل دخول قوات الأمير فيصل بن الحسين إليها فوق مبنى دار البلدية.
وكان العاهل الألماني الإمبراطور غليوم الثاني وزوجته قد قاما بزيارة لدمشق في شهر تشرين الثاني من عام 1898 م وزارا ساحة المرجة ومبنى دار البلدية.

إعدام الشاهد:
في نهاية الخمسينات من القرن الماضي قامت الجهات المعنية بدمشق بهدم مبنى دار بلدية دمشق في ساحة المرجة، وهدمت معه تاريخاً طويلاً عريضاً من ذاكرة الإنسان والزمان والمكان!! وتم إشادة كتلة إسمنتية ضخمة مكانة عرفت باسم برج الفيحاء أو بناء الشرابي.
في كل دول العالم يحافظون على الأبنية التاريخية التراثية، ونحن نعدم بناء دار بلدية دمشق الذي كان شاهداً على تاريخنا..

الأماكن التي نمر بها أو نسكنها، لها تفاصيلها الخاصة من "جدران وأبواب ونوافذ"، تنثر عبقاً ينفذ داخل مسام أجسادنا.. لتصبح محملة بذاكرة المكان، وبدلاً من أن نسكن نحن الأماكن.. تصبح هي من تسكننا.