تقدم نفسها متجددة لتترك منسية على أرضها

تقدم نفسها متجددة لتترك منسية على أرضها

الأزمنة

السبت، ٢١ فبراير ٢٠١٥

زهير جبور
أعطت الطبيعة للإنسان ما احتاجه للعيش، ولم تبخل عليه، وكما تتطلب فطرته وغريزته فهمها والتعامل معها، ومع التطور وجدت آلته الفتاكة للنيل منها في استثمار بشع كان يحتاج للكثير من الدراية، والابتعاد عن التخريب، ولكنه حصل، ليتسارع اليوم دول وعلماء مختصون لإيجاد الحلول والخطر البيئي يهدد، وعلى مساحة الساحل السوري نعيش هذه الأيام تقلبات مناخية متبدلة بتسارع لم نكن نعرفه سابقاً كما هو عليه الآن، ما جعل نسبة كبيرة جداً يطلقون سعالاً بين المتوسط والشديد، مقاوماً للعلاج، وهي ملاحظة ظاهرة، وبين الحرارة المرتفعة بوقت الظهيرة والشمس الحارقة إلى انخفاضها بعد الظهر ووصولها إلى درجات منخفضة، ما يضعف الأجساد ويفقدها مقاومتها خاصة بين الأطفال وكبار السن، حيث المناعة المنهارة بين الجسدية والعقلية أيضاً خاصة عند أصحاب الدخل المحدود إن جازت التسمية لكونها فقدت هي الأخرى معناها، وغدت دون مناعة، وهذا ما يبعث على الاختناق وليس السعال، وحين كنت أستعد لكتابة الموضوع واجهت الحالة أثناء تعرفي على أسعار الأعشاب والزهور الطبية، التي تقطف من أرضنا وتنمو في بيئتنا، وهي ليست مستوردة ولا مجمركة، ومن ضرب الخيال فعلاً أن يكون سعر خلطة الزهورات للكيلو الواحد 1800 ل.س، والزنجبيل 3000ل.س، والبابونج 2500ل.س، والزعتر البلدي 2000ل.س، وجميعها من النوع المتوسط فماذا جرى؟ وأي نوبة سعال حاد تحل خنقاً علينا وتحبس أنفاسنا؟.
•    السوائل الطبيعية
في مثل هذه الحالات المرضية يوصي الطب بالإكثار من السوائل، ومن المعروف أن الإنسان يفقدها أثناء ارتفاع حرارته، أو شعوره بأي خلل يدفعه لعدم النشاط والتكامل وارتخاء المفاصل والبرودة والسخونة، وثمة دورً مهم للسوائل في استرجاع مناعة تراجعت، وحسب علم طب الأعشاب فإن لكل واحدة تصنيفها العلاجي، الذي يترافق مع الدواء المصنع وإحداهما يكمل دور الآخر، إذاً هذه ليست مواد كمالية ولا ترفيهية، بل هي ركيزة أساسية ينبغي التعامل معها وعدم إهمالها، وإليكم حادثة جرت معنا وكنا مجموعة أصدقاء نمارس رياضة صعود جبل (البدروسية) بجانب مصيف كسب في زمن الاستقرار والأمان الذي افتقدناه بسبب الأشرار وعصاباتهم، وقع صديقنا على صخرة فنزف الدم غزيراً من ساقه وأصابنا الإرباك الشديد ونحن نسرع للعودة وإسعافه إلى أقرب مستوصف، لينفرد أبو تمام الذي كان معنا ويقطف عشبة معينة ويسرع لوضعها فوق الجرح، ولم يمض وقت طويل حتى توقف الدم، وكنا نخشى أن يودي بحياته نزفاً، أثنى الدكتور المسعف على التصرف الذي أنقذه والإصابة كانت عميقة، إذاً هي الطبيعة رحيمة على الإنسان بقدر ما هو قاس عليها.
•    ثروة مهدورة
ونحن أمام ثروتها التي لم يستفد منها بالشكل الأمثل والأفضل حتى الآن جرت محاولات لكنها لم تتم كما ينبغي، وفي مجلة الأزمنة نشرنا قبل ست سنوات موضوعاً حول الزهور والأعشاب عبر جولة في منطقة الحفة التي تنمو فيها في فصل الربيع 1500 عشبة وزهرة، بالاسم ونوع الفائدة، وكان يرافقنا وقتذاك مختص في علوم البيئة والأعشاب، وتم الاقتراح أن تسارع الجهات الرسمية المختصة لإقامة مستودعات التخزين السليم لتبقي المنتج محافظاً على قيمته الشفائية والصحية، وكذلك إنشاء مصنع للأدوية، وعلمنا فيما بعد أن ثمة مخططاً يدرس لكنه لم يشهد النور واحتفظ به في الأرشيف، وبقيت الثروة مهدورة، ويعود موضوع التداوي بالأعشاب للتاريخ القديم، وقد خلف لنا الأوائل الكتب التي تشرح أهميتها وأساليب استعمالها، وفي اللاذقية عمل الراحل أمين رويحة في مجاله الشعبي مع بداية خمسينيات القرن الماضي، وقبل وفاته وأثناء زيارته للاذقية التي غادرها إلى بيروت متابعاً عمله هناك ليصدر مجموعة كتبه حول التداوي بالأعشاب مترجمة لعدة لغات، وله الفضل الأول في تأسيس الشركات النباتية العلاجية في لبنان وهي تعلن اليوم عن منتوجها عبر العالم، تحدث الراحل عن بحوث أجراها في الساحل السوري وخاصة مناطق بانياس. القدموس. الحفة. صلنفة. ونمو زهرة ربيعية عمرها عدة أيام فقط، تفرز رائحتها الرائعة. المنعشة. الغريبة. ومن بعدها تذبل، وهي من الزهور النادرة في العالم، ولها قيمة علاجية في حال الاستفادة منها وقطافها في الوقت المناسب، وكنا قد نقلنا هذه المعلومة للعديد من المختصين للبحث عنها والتعريف بها، وخاصة أنها تحمل عناصر شفائية مذهلة، ومن المعروف أن الدكتور أمين رويحة من الذين عملوا على زراعة شجرة العناب بمنطقة الحفة، وازدهرت وأثمرت فيما بعد، لكن يد الإرهاب أحرقت العشرات منها، وفي اللاذقية ظهرت أسرة (الوزان) +التي كانت على صلة وثيقة بسوق (البزورية) في دمشق، وحصلت على سمعة جيدة وكانت تقصد من المحافظات السورية ودول الجوار، وكذلك السيد سابا دكر الذي حضر من الأعشاب علاجاً لشفاء مرض الريقان خلال فترة وجيزة، وبعد رحيل الجيل القديم الذي اجتهد وقدم خدمات مجانية أو غير ذلك لم تستطع الأجيال اللاحقة إملاء الفراغ لأن من سبقوهم اعتمدوا العمل الحقلي واستمدوا معلوماتهم المعرفية من الكتب المختصة، أما الورثة فقد استهانوا.
•    المعرفة والاهتمام
حتى الآن يمكن أن نشير إلى أن الأهمية العلاجية ظلت محصورة بالمعرفة الشعبية مع بعض الاستثناءات القليلة جداً، وعلى امتداد الريف الساحلي يعرفون أن تناول عدة حبات من البلوط صباحاً يعادل نصف إبرة (أنسولين) السكر إن لم يكن أكثر، هذا ما كن يقمن به الجدات اللواتي يحملن الجهل حسب التفكير الحداثوي الذي حملته أجيال الإنترنت ليلغي الكثير من عادات طيبة كانوا يحملونها وافتقدوها، ولا بد أن الصناعة الدوائية التي نهضت بها البلاد قبل سنوات أمنت الدواء فعلاً لكنها لم توفر أحياناً الفاعلية الشفائية، وكثيرون ممن تحدثنا إليهم وضحوا أن شراب السعلة مجرد ماء وسكر، وقد استهلكوا عدة عبوات دون فائدة، وبعض مرضى الضغط غيروا الدواء عدة مرات بسبب عدم تفاعله مع ضغطهم وهذا يعني ضرورة إخضاع المادة للرقابة الشديدة والتدقيق بالمواصفات، ومن المفترض أن تأخذ مراكز البحث العلمي دورها في الحياة الصحية وألا يعامل الدواء معاملة تصنيع مواد الغسيل والجلي، ونحن لا نتجاهل دور وزارة الصحة وعملها لكننا نأخذ نماذجنا من الواقع ونطرحها من باب الحرص والاهتمام والمحاسبة، أما فيما يخص الأعشاب والدواء فينبغي خضوعها لعمل منظم يخدم المجتمع والشركات التجارية التي طرحت إنتاجها المغلف سابقاً لم تكن البديل العلمي وهي دخلت الحياة العامة ليس بفضل النتائج الجماهيرية المثبتة بل من خلال الإعلان فقط وتراجع رواجها كثيراً، الثروة المتجددة مع كل ربيع لا تحتاج إلا للخطط ليصار إلى الاستفادة منها، أما سبب ارتفاع أسعارها غير المعقول فيعود لعدم وجود اليد العاملة، وفي الماضي كان أبناء المهنة يشرفون على القطاف ويشكلون ورش العمل، أما اليوم فلا إشراف ولا ورش، والمنتج يخضع للمبادرات الفردية غير المنظمة أو المدروسة، ومن المسلم به أن للقطاف طرقه الصحية كي لا تفقد العشبة أو الزهرة فائدتها المرجوة، قديماً لم يكن يخلو البيت السوري من البابونج. الزوفا. اكليل الجبل. النعناع. وينبغي ألا ننسى العسل الدواء الشافي الملكي وأسعاره الآن تحلق بعيداً جداً عن يد الفقراء والدخل المحدود، وسعر المغشوش منه يبعث خناقاً سعالياً حاداً، ولكن لنا أمل في أن تعود مراكبنا إلى ميناء استقرارها وأمانها لنتفاعل مع سورية الجديدة ولا نتقاعس لنخلف لأجيالنا القادمة ما يليق بحياتهم كي لا نلعن من قبلهم وهم يتساءلون أهذا ما فعلتموه يا للعار؟.