التخرج والمعاناة التي تطول حتى انحسار الأمل

التخرج والمعاناة التي تطول حتى انحسار الأمل

الأزمنة

الأحد، ١ فبراير ٢٠١٥

زهير جبور
لابد أنّ الحصول على الشهادات يصب أخيراً في مهنة يمارسها المتلقي ويكوّن من خلالها مستقبله، وهذا يخضع لمدى طموحه وقناعاته، فمنهم من يطور عمله ومنهم من يكتفي بما هو فيه، والحياة بطبيعتها تعني الطالب المتقدم. الباحث. المستكشف. ويجد في هذا تأكيداً لحضوره واستمرارية لوجوده، وبالمقابل من يحمل عكس الصفات وله حرية التفكير والتفضيل فلا أحد يعيش حياة غيره، ولا أحد يمكن أن يوقف زمنه، والعجلة مستمرة في دورانها، ولماذا السعي خلف الشهادة العلمية لنمضي سنوات طويلة من أعمارنا بحثاً عنها في أي اختصاص كان، ومن بعدها تصدمنا حالة البطالة وعدم توفر العمل المناسب، إذ إنّه من غير المنطقي أن يعيّن مهندس البترول بشهادته المتميزة وعلومه المعاصرة المطلوبة في زمن النفط بديوان الصادر والوارد في دائرة لا علاقة لها بالموضوع، يحدث هذا ولا حاجة للاستغراب أو الاندهاش، ومن غير الطبيعي أن نواجه أرتالاً طويلة جداً ممن يحملون شهادة جامعية بلا عمل يفتشون عن ابن ثري هنا وهناك ليحصلوا على لقمة عيشهم إن تمكنوا، وهذا ينطبق على الرياضيات واللغة العربية والكيمياء والفيزياء واللغة الإنكليزية .... ضحكت منال طويلاً وهي تجيب عن سؤالي حول الغاية من حصولها على الشهادة وكأنني رويت لها طرفة حارة تحتاج للكثير من القهقهات، لو تزوجت وأنجبت لاكتفيت بالجلوس في المنزل كأي سيدة أخرى، لم يحصل هذا، كنت متفوقة منذ الصف الأول الابتدائي حتى لحظة تسلمي الشهادة الجامعية، ومن بعدها بدأت أتراجع في طموحي, مطالعاتي. آمالي. حتى إنني فشلت في فهم الحب وترجمته كما ينبغي، ولم يستطع (شكسبير) إنقاذي، وها أنا الآن أدرّس الإنكليزي لولدين أخوين والدهما ثري  يملك مطبعة حديثة ودونمات واسعة من الأراضي المثمرة، وعدة شاليهات فاخرة على الشاطئ، وهو لا يفرق بين اللغة الإنكليزية والصينية، وحين الحساب يشعرني أنني بحاجة للمبلغ الذي يتكرم في إعطائه لي.. هل عرفت لماذا فتشنا عن الشهادة وسهرنا وكافحنا حتى حصلنا عليها.
•    وليست منال لوحدها
 فها هو مجد الحاصل على شهادة العلوم منذ سبع سنوات، يعمل حالياً حارساً ليلياً لصالة مطعم، وبعد أن يغادر آخر زبون يحضر هو ليقوم بالتنظيف وجمع الطاولات والكراسي، وما يحتاجه المطبخ ثم يتولى بعد هذه الترتيبات عمل الحراسة مقابل مبلغ 15000 ل.س لا يحق له طلب زيادتها وليس في شروط عمله ما يخضعه لأي قانون، هكذا كان الاتفاق مع المالك منذ البداية، أما بشار الحاصل على شهادة الصيدلة منذ 12 سنة فقد عمل في عدة صيدليات داخل المدينة وخارجها، وكان يتم استئجاره خاصة لصيدليات الريف كي ينوب عن الذين يجبرون لافتتاحها حسب القانون، ويعمل نيابة عنهم، يقول: حقيقة أنا عانيت كثيراً حتى أنهيت دراستي، وأسرتي فقيرة جداً، وللكلية متطلباتها، وكذلك للدراسة الجامعية بشكل عام، وكنت أحلم بعد تخرجي أن أتمكن من افتتاح صيدلية أمارس بها العمل، خدمة للمجتمع وحرصاً على الناس، وطوّرت نفسي في هذا المجال، وركزت على التراكيب الدوائية، خاصة لبعض الأمراض الجلدية، ولم أتمكن من تحقيق حلمي في الحصول على صيدلية ما، أخيراً توقفت عن البحث وأصابني الملل، وبصراحة تسرب إلى نفسي اليأس مع أنني من المؤمنين جداً بإرادة الإنسان، لكن الحصول على المال مهما صغر المبلغ ينفي إرادة الإنسان ويجعله ذليلاً.. مستورة.. ماشي الحال. وتقول عبير إنّها دخلت فرع الفلسفة وعلم النفس عن قناعة وحب، وهي في سن مبكرة وجدت نفسها تميل إلى هذا الفرع ودراساته، لكنها بقيت دون عمل عدة سنوات وحين توفرت لها فرصة تقديم إلى مسابقة بشركة صناعية نجحت وتم تعيينها، في البداية وضعت بقسم المحاسبة ولم تنسجم مع عملها فطلبت نقلها إلى عمل آخر، وتسلمت سجل حضور الموظفين وإجازاتهم وأمراضهم الصحية وغير ذلك، اختصر أمر الفلسفة كلها بذلك السجل العريض وغلافه الأسود السميك.
•    الجوانب الأخرى
لابد أنّ لموضوع البطالة جوانبه السلبية خاصة عند الذين يحملون اختصاصاتهم الجامعية وإحساسهم بأنّ وجودهم يشكل أعباء على أسرهم ومجتمعهم وليس فشلهم إلا إدانة للمجتمع الذي ظلمهم حسب شعورهم ليدفعهم هذا لإيجاد المخرج، وهنا تلعب ثقافة المتضرر دورها، وكذلك مدى وعيه، وكثيراً ما قرأنا في الأدب عن شخصيات أجبرتها ظروف البطالة للسرقة أو قادتها إلى الجريمة، وحينما تتصاعد وتضعف الإرادة وتسد ثغرات الأمل بكاملها تصل إلى خيانة الوطن كردة فعل طائشة تقود إلى النهاية الفجائعية، وشخصيات الأدب ليست بكاملها من الخيال، وثمة حقائق يمكن التحدث عنها في هذا المجال، وفي التصنيف الاجتماعي المتطور أنّ البطالة من أخطر الأمراض وعلى الجهات الحكومية أن تخطط للتخلص منها وأن تلغي الشعور بأنّ مواطنية الفرد غير مكتملة، وهو لم يحصل على حقه في العمل، الذي تعترف به الأديان السماوية، والأعراف الاجتماعية، ومنذ أن أدرك الإنسان البدائي العيش عرف بالفطرة أنّ عليه إيجاد وسيلة للعمل كي يصطاد الحيوانات ويأكلها، وحرب الاقتصاد في زمننا أكثر شراسة بما لا يقارن بالحرب العسكرية.
•    الموضوع القديم الجديد
كثيرة جداً هي الدراسات التي تم نشرها عن البطالة في بلادنا ونسبها بين حملة الشهادات أو من دونها، وفي المجتمع التجاري يتم الحصول على الشهادة ليس من أجل وظيفتها الحكومية بل لتكون متابعة لأعمال الأسرة التي ينتمي إليها الفرد، أما في المجتمع الريفي حيث لا تجارة ولا صناعة، حتى ولا زراعة منتجة كما ينبغي، طريق واحدة لا تتفرع إحداها عن الأخرى، شهادة ووظيفة، وحين أخفقت حكوماتنا السابقة في إيجاد الحلول تراكمت البطالة وبدأت تشكل أخطاراً ثم جاءت الظروف المؤسفة التي شهدتها البلاد، وهي الآن في عمرها الرابع، فازدادت الخطورة أكثر، وحلت صعوبة تأمين لقمة العيش، وانتشر الفقر على نطاق واسع جداً، وأصبحنا إما طبقة من الأثرياء تحتكر وتستغل، وتستفيد من القائم على حساب كل شيء، أو طبقه من الفقراء الذين يحتاجون ثمن رغيف الخبز ولا يجدونه، وهم من أصحاب الدخل الذي سمي محدوداً وهو في الواقع مخنوق ومضغوط فكيف بحال الذين من دون عمل، لم تتمكن الحكومات السابقة من تحقيق عدالة منطقية في التوظيف، ولا بأس أن نذكر هنا بالمسابقات التي تمت في اللاذقية قبل الأزمة، وكنا في مجلة الأزمنة قد نشرنا عنها، وكيف تم تعيين أقرباء المسؤولين وأصحاب النفوذ ومن لديهم الوساطة، ومن أعطوا الرشاوى، وكيف خرج الكثيرون ممن يستحقون العمل بجدارة، وثقافة دون عدالة وإنصاف، حصل ذلك بسبب الفساد، ثم بعيداً عن المسابقات وطريقة السوء المهني والضمير في تنفيذها، حلت التعيينات المباشرة خروجاً عن التوجيهات الحكومية التي اقتضت عدم إيجاز هذا التعيين خارج المسابقة، وصار الالتفاف عليها في الإعلان عنها ليصار إلى تثبيت من يريدون، وتنفق تكاليفها وتشكل لجانها وتأتي النتائج لصالح أربعة أو خمسة من العاملين مؤقتاً أو من الذين يدعمون ويقيلون دون شروط الكفاءة، ومنذ بداية الأزمة توقفت المسابقات أو لم يعد يعلن عنها، وربما تقام سراً ليبلغ بها من يبلغ، والباقي لهم النصيب إن حالفهم الحظ، وتراجع الحديث عن البطالة كأنها انتهت وليس لوجودها أي ذكر، حتى في مخططات الحكومات السابقة والحالية أيضاً، ما جعل هؤلاء الذي التقيناهم يعانون ويبحثون عن حل ويفقدون كل أمل ممكن، فماذا عنهم؟ وإلى أين يتجهون؟ وجامعاتنا تزج خريجيها سنوياً داعية لهم بالتوفيق وإيجاد العمل المناسب المتفق مع دراساتهم، وهؤلاء يتوزعون بين بائع البطاطا على عربة خشبية أو من يشعل فحم النرجيلة في المقهى الشعبي (نارة يا ولد) أو من يتعلم مهنة (الكومجي) وهكذا كما رأيناهم وتحدثنا إليهم، أو من غادر البلاد بطرق شرعية أو غير شرعية، وربما انضم بعضهم للعصابات المسلحة أو لعصابات السرقة والتشليح وتهديد حياة الأبرياء، مشكلة البطالة ينبغي أن تعالج وتتخذ بشأنها إجراءات حكومية ونأمل أن يتم الانتصار قريباً وتأخذ الكثير من القضايا المؤجلة طريقها إلى الحل.