الثقافة الغذائية وضرورة انتشارها

الثقافة الغذائية وضرورة انتشارها

الأزمنة

الأحد، ١٨ يناير ٢٠١٥

زهير جبور
كيف عرفنا البحر واستفدنا منه ليس رومانسياً ولا شعرياً فقط بل بتسخيره لصالح الاقتصاد والغذاء، وأجدادنا عرفوا النقل البحري منذ زمن الكنعانيين الذين صنعوا سفنهم واشتهروا بها، ومن المؤكد أنّ حركة مرفأ اللاذقية وفي سنوات الأزمة المؤسفة ساهمت بشكل فعّال بتخفيف قيود الاقتصاد التي فرضتها العقوبات الجائرة استكمالاً لمخطط المؤامرة، وسفن الدول الصديقة لم تتوقف أو تتقيد ولم تكترث بها، غرضها الإجرامي التجويع التام لتقهقر الصمود الذي حققه الشعب السوري رافضاً الاستسلام.
•    والمقصود هنا
ليس البحر بجماليته فقط بل في ثرواته خاصة الغذائية ومن أهمها السمك، الطعام الذي لا يجوز الاستغناء عنه، بل تطوير إنتاجه وجعله أكلة شعبية متوفرة للجميع، توجهنا نحو ذلك منذ عام 1980 من القرن الماضي واستحدثت المديرية المعنية بالثروة السمكية وحمايتها، وأقيمت منذ ذلك الوقت ندوات واجتماعات وتمت الاستعانة بخبرات من دول سبقتنا وكان هدفها تلبية حاجة الاستهلاك بما يوفر التربية الغذائية المتكاملة لأبناء المجتمع.
•    لم تتحقق النتائج
مر زمن طويل على النشاط المعني، وإلى الآن لم تدخل بحوثنا وخبرتنا ميدان البحر بشكل علمي، مثلاً نستورد حتى اليوم معلبات (الطون) (السردين) من بعض البلدان، ولم نتجه لصناعتها علماً أنّها تستحضر من نوعين للأسماك (السردين) و(البلاميدا) للطون، وثمة رأي غذائي يؤكد أنّه على الإنسان أن يتناول أسبوعياً السمك ويفضل الطازج، وفي حال غيابه فإنّ علبة طون أو سردين تسد الحاجة الغذائية، وكانت نظرتنا خاطئة جداً بسبب عدم إتقاننا لعلم الغذاء الذي يرشح هذين النوعين للمرتبة الأولى وهما يحملان قيمة بروتينية عالية، وكنا نفضل الأسماك الأخرى ذات الأسعار المرتفعة جداً حيث سمك اللقز كان يباع بمبلغ /4000/ ل.س للكيلو الواحد فيما حفظنا جيداً مقولة من يأكل سمك البلاميدا ما بيعيدا، والسردين مو مضمون، وكان الصنفان يباعان بسعر /25/ ليرة للكيلو الواحد، مفاهيم طبقت عندنا فقط في حين كان العالم المنتج للسمك يجدهما من النوع الأول الممتاز وهما يتميزان بغنى البروتين الذي يحتاجه الإنسان، ويجنبه العديد من الأمراض، وتقدمان غذاء خالياً من الدسم والشحوم والسكريات، والمنعة الطبيعية في حين أنّ (القريدس) المرغوب جداً بثمنه المرتفع يحمل نسبة من الدهون المرتفعة وكان يمكن للصيادين في أيام الخير الحصول على كميات كبيرة من النوعين المذكورين (سردين) (بلاميدا) لكنهم يتخلون عنهما بحثاً عن (اللقز الصخري والرملي) (الإجاج) (الفريدة) لترجعنا أزمة البلاد المؤسفة إلى الصواب الغذائي وتدفعنا للبحث عنهما بالثمن الشعبي الذي تخطاها كثيراً فسعر البلاميدا الآن 800 ل.س والسردين 650-700 ل.س للكيلو الواحد، خلاصة القول إنّ ثمة فشل عرفناه منذ ثمانينات القرن الماضي وإلى الآن لم يصل إنتاج السمك إلى جعله أكلة شعبية يحق لكل مواطن الحصول عليه في سعره المعقول، ومن المعروف غذائياً أنّ على الفرد الحصول على 12 كغ من السمك سنوياً بهدف التوازن الغذائي في حين أنّ استهلاك الفرد عندنا 1كغ سنوياً، وهذا ما يعتبر تراجعاً كبيراً في الحصول على مادتي اليود والبروتين المتواجدتين في السمك حصراً، وحتى الكمية المطلوبة كيلو غرام لا يحصل عليها الفقراء الذين تصب كل الويلات فوق رؤوسهم.
•    أسباب ذلك
يمكننا أن نجير الأسباب لعدة جوانب لم نلحظها أو لحظناها لكنها أهملت، وكنا في مجلة الأزمنة قد أجرينا لقاء قبل سنتين مع المدير المختص بالثروة السمكية الذي وعد وقتذاك بأنّ إدارته تسعى لجعل مادة السمك شعبية، كما هو الفروج حيث تم تشجيع افتتاح المداجن وتمت تغطية السوق، لكن مزارع السمك البحري حصرت في المديرية المذكورة وكذلك إنتاج سمك البحيرات المتواجدة في المحافظات ولم يحصل القطاع الخاص على أي تشجيع أو موافقة، وبعد مرور الوقت كانت المديرية تنفذ الأحواض المستطيلة الدائرية الترابية على شاطئ جبلة إلى جانب الأقفاص المائية داخل البحر، وحسب المصادر السمكية أنّهم أنجزوا حتى الآن 90% من المشروع الذي طال انتظاره، وانتهوا من قناة جر المياه من البحر بطول 150م وكذلك أحواض التهدئة، وكنا قد نقلنا هذا الكلام عن لسان المدير في اللقاء القديم، الذي وعد حينها أنّه خلال مدة قصيرة جداً سيكون الإنتاج في الاستهلاك، وتكرر الوعد مؤخراً في اجتماع عقد الشهر الماضي وحضر المدير نفسه مع الوعد في أنّ الإنتاج سيكون قريباً في الاستهلاك.
•    الواقع الحالي
سوق السمك الآن كاوية. حارقة. لا علاقة لها بالشعبية. وفيها ما هو أقرب للخيال بالنسبة للسعر، وبين اللحمة والسمك والفروج فقد الفقراء عناصر غذائية كان من المطلوب حمايتها، وتجنب الاقتراب منها مهما كانت الأسباب، تشتري أم علاء كيلو غرام واحد من اللحمة شهرياً تقسمها على طبخة واحدة أسبوعياً، وليس لديها الإمكانية لغير ذلك، وعدد أفراد أسرتها خمسة، أي إنّ نصيب الواحد منهم أقل من أوقية في الشهر، أما السمك فهي لا تتعامل معه أبداً ووجبتهم تحتاج على الأقل لثلاثة كيلو غرامات، وهي أنموذج لأسرة ساحلية، من المفترض أن تكون مادة السمك متوفرة لها، فكيف حال أبناء المحافظات الداخلية هم دون شك نسيوا شكل السمكة والمعنيون هنا الفقراء وأصحاب الدخل المحدود مع ملاحظة تراجع إنتاج سمك البحيرات بسبب الظروف الأمنية.
•    رأي الصيادين
هؤلاء طالبوا  بإيقاف الصيد الجائر الذي ازداد انتشاره بعد الأحداث من كهربة الماء إلى ضرب (الديناميت) وهذا ما يقضي على أطنان من الأسماك، والسمكة كائن حي وفي حال عودتها إلى المكان الذي زرعت به بيوضها ولم تجدها فهي تهاجر ولا تعود مرة أخرى. ومن يقومون بالفعل ليسوا الصيادين الحقيقيين، بل هم المتطفلون على المهنة، وجهات الحماية تعرف ذلك ولا تستطيع القيام بأي عمل يردع، ومن جانب آخر فإنّ غلاء المازوت ومواد الصيد الأخرى أثّر كثيراً على طبيعة الإنتاج، وفي منطقة (ابن هاني) كانت تنطلق صباحاً العشرات من قوارب الصيد محملة بكافة أنواع السمك الذي تحدد أسعاره لتلبية حاجة الأغنياء والفقراء معاً، لكن تراجع الصيد ألغى الفرز مع ملاحظة أنّ الشباب من الصيادين الذين كان يتم الاعتماد عليهم غادروا المهنة.
ما الذي يلزم؟
بالدرجة الأولى والأكثر أهمية إعادة النظر في استنزاف الثروة السمكية وإيجاد الحلول لها، وعدم إهمالها، وشواطئنا حالياً تواجه شحاً كبيراً وثمة أنواع من السمك اختفت تماماً، وإذا بقي الحال على ما هو عليه فسنجد شواطئنا ميتة خالية تماماً وكذلك إنجاز الوعد الحكومي وطرح إنتاج المشروع الحوضي للاستهلاك في أسعار تتناسب وطبيعة الدخل وتشجيع إنتاج سمك البحيرات أي السمك النهري وهو يحمل القيمة الغذائية نفسها، وفي حال غياب البحري والنهري فمن الضروري الاعتماد على السمك المعلّب خاصة لمن هم في سن النمو وأجسادهم تحتاج (لليود) وبسبب افتقارنا للثقافة الغذائية خاصة بين الأمهات فعلى الجهات المعنية التركيز على الموضوع وإجراء حملات التوعية، والتقصير يؤدي إلى ضعف البنية الجسدية، والبحث عن مصادر التعويض ليصار إلى التكامل الغذائي، وإلى أن تخرج البلاد منتصرة وتعود الحياة إلى طبيعتها التي افتقدت فسوف نبقى نواجه الكثير لكن من الواجب أن نبحث عن الحلول المؤقتة كي لا تنعكس النتائج السلبية مستقبلاً والتخفيف منها ما أمكن.