بين المُعلن والمخفي هل يطول الانتظار؟

بين المُعلن والمخفي هل يطول الانتظار؟

الأزمنة

الاثنين، ١٥ سبتمبر ٢٠١٤

زهير جبور
ربما لن يتمكن زائرها للوهلة الأولى من إمكانية التواصل المنسجم معها، قد يجدها ضيقة وفي وسطها لا رحابة فضاء، أو لا يتأقلم مع فوضاها وضجيجها، وتنسيق شوارعها التي تنتهي عند (كورنيش) البحر كما يطلقون عليه، وهو المتنفس الغربي ليتشكل الشرقي من سلسلة جبال مرتفعة تفصلها عن موقع المدينة تلك السهول، التي أخذت اسمها القديم سهول جبلة، هي من أقدم مدن الساحل السوري، وكانت دائماً تتنافس مع مدينة بانياس في ذلك التاريخ، وتمركز اقتصادها على ريفها، وكانت دائماً نقطة ارتكازه وتصريف إنتاجه، وتسيير أموره الإدارية، وهكذا أخذت جبلة دورها، ولعل فكرة طرأت قديماً في مخطط الإدارة المحلية أن تجعلها محافظة ثالثة بين اللاذقية وطرطوس، لم يحدث هذا مع أنّه أخذ يتردد كثيراً في نهايات الثمانينات من القرن الماضي. بعد عدة مرات سوف يشعر زائرها الذي فرّ منه الإحساس بالمرة الأولى والثانية، أنّ تفاصيلها تجذبه وبداخلها ذلك السحر الذي لا يتحلل مباشرة بالنفس، وأنّ (جباليا) تلك ما هي في موقعها القديم إلا صورة مصغرة عن دمشق القديمة، أزقة ضيقة، وأقواس حجرية، وحارات لها بوابات كانت تغلق ليلاً، وحميمية بين سكانها فلا أسرار لبيوت، ولا تباعد، بل هم يشكلون العائلة الواحدة، وسوق مسقوفة أقرب إلى سوق الحميدية، ونوافير، ولهم لهجتهم الساحلية المتميزة بمفردات خاصة، يتفاخرون بها وقد توارثوها، وهي تشبه أيضاً مدينة طبريا في فلسطين، وكانت تربطها بفلسطين منذ القدم علاقة اقتصادية متينة جداً، ومنها حملوا صناعة الكنافة الجبلاوية، وما زالوا إلى اليوم يمارسون المهنة، بل إنّ سكان الساحل والداخل يحضرون خصيصاً لتناولها، فهي ذات مذاق خاص لم يستطع أحد في مدن الساحل إنتاج الشبيه لها، وجاورت عبر الزمن تل مملكة (سيانو) حيث أقدم معصرة للزيت، وكان يصدّر بواسطة السفن، تصوروا أنّ حالها اليوم دون أي فائض زيتي، ولا إمكانية لسد حاجة الاستهلاك المحلي، وفي بلدة بيت ياشوط الواقعة بريفها الغربي في الأعلى كانت شهرة زيتها قد انتشرت، وذاع صيتها، هي الآن تفتقر حتى لكمية قليلة، ما دفع سكان جبلة وريفها للاستعانة من المصادر الأخرى، يتفاخرون بتاريخ مدينتهم، حيث حافظوا على مدرجها الروماني الذي يقترب من حيث الهندسة المعمارية إلى مدرج بصرى في حوران، وجامع السلطان إبراهيم الذي يقع على أحد أطرافها قريباً من شاطئ البحر، وأهم ما يتحدثون عنه بكل عنفوان وشهامة هو إخلاصهم للوطن، ومن بينهم ظهر عز الدين القسام شهيداً مناضلاً من أجل فلسطين، وسمي شارع باسمه ونصّب تمثال يرمز إلى بطولاته، وهكذا فإنّ الزائر سوف يجد نفسه قد تعلق بالمدينة وأحبها، هو ما حصل معي لأجد نفسي بعد حين متعلقاً بجبلة أزورها باستمرار وأمشي في أزقتها القديمة وأهتم بتاريخها وأقيم علاقات وطيدة جداً مع سكانها.
•    ماذا عنها؟
اختلفت جبلة الماضي عما هي عليه اليوم لكنها ظلت محافظة على سرّ سحرها، وكان من المقرر تحولها إلى مدينة سياحية بسبب قدمها على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وهذا بطبيعة الحال كان سينعكس تقدماً وازدهاراً ونهضة عليها وريفها ومحيطها، وخاصة أنّ المؤهلات متوفرة من المطار إلى الميناء، إلى السياحات متعددة الأغراض، لم يتم ذلك فبقيت على حالها، لتتسابق مع مدينة اللاذقية في نشر المقاهي التي تحتل حالياً كورنيشها بكامله، مقهى إلى جانب آخر، ويقول السكان الذين تطل شرفات بيوتهم على البحر إنّه يكاد يغلق في واجهتهم وخاصة أنّ رخص الاستثمار قد تجاوزت حدودها المعقولة، وبدأت أمورها تتجه صوب الفوضى، مع معرفة مجلس مدينتها، الذي أكثر أيضاً من (الكولبات) في شوارعها، وغدت تأخذ مساحات واسعة، والذين تحدثنا إليهم أبدوا ملاحظاتهم حولها، وقد فاقت كل حدود، ولم تعد تطاق، مع ملاحظة الإهمال الأثري الذي حصل بعد الأزمة المؤسفة التي حلّت بالبلاد، ووصول أعضاء إلى المجلس استغلوا وجودهم لتحقيق مصالحهم الشخصية، بعيداً عن المصلحة العامة، والحرص على المدينة ووجهها الحضاري وقد شوهته تصرفاتهم، وعدم شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، والشواهد لا تحتاج إلى أدلة، سوى تفقد أحوال المدينة وواقعها، وما يجري بها حالياً، وعبّروا عن ضرورة معالجة الأمر وإيجاد الحلول المناسبة، وإنقاذها الإسعافي، وكان هذا الموضوع قد أثير عدة مرات في مجلس محافظة اللاذقية واتخذت إجراءات بخصوصه، وشكّلت لجان، ثم طوي ولم يعد يثار، ولم تتقدم اللجان بما وصلت إليه إلا بشكل شفوي وعابر.
•     الفروقات الظاهرة
استقبلت المدينة أعداداً لا بأس بها من الأخوة الوافدين من المحافظات الساخنة خاصة حلب، وسارع هؤلاء لاستثمار وجودهم في حركة اقتصادية منتجة تحقق لهم ظروف العيش إلى حين عودتهم بعد الانتصار، والخلاص من الأزمة اللعينة التي أثرت على كامل شعبنا دون استثناء، أقاموا مباشرة عدة مصانع للنسيج، ثم استفادوا من الطبيعة في معامل صابون الغار الذي يغطي الجبال المحيطة، وباشروا في التصنيع، وهم يطرحون في الأسواق حالياً صابوناً مميزاً برائحة الغار الطبيعي، الذي تفوق شعبياً على غار كسب وسواه، مع ملاحظة المحافظة على الأسعار التي تمكن الجميع من شرائه والتأكيد على جودته، واتجهوا صوب الأزهار البرية الربيعية، وكنا في موضوع نشرته الأزمنة قبل بداية الأحداث قد فصّلنا طبيعتها بمرافقة خبير في النباتات، ودعونا للاستفادة منها والعمل على قطافها، واعتبار الغار الذي يهدر سنوياً دون فائدة ثروة وطنية، لكن لم تتم الاستجابة ولا الاهتمام، تطرح الآن خلطات من الزهور المنزلية والبرية ذات فائدة إلى جانب صناعات أخرى مثل الأحذية والحلويات والصوف، في حين لم يفكر أحد من قبل بالاستفادة من الطبيعة، وغناها المتنوع، وذكر أبناء جبلة وريفها معاناتهم مع المياه التي تقطع عن القرى عدة أيام متواصلة، ما يجبرهم على الاستعانة بالآبار وشراء المياه ممن تتواجد في أراضيهم ويحدد سعرها بالساعة، وهي مشكلة ريفنا بكامله في جفاف يجتازه لم يعرفه منذ عشرات السنين، وثمة مخالفات في البناء انتشرت على نطاق واسع ووصلت إلى تسوير أملاك الدولة في الساحات التي كانت مخصصة كحدائق شارعية خاصة على الكورنيش دون اتخاذ إي إجراءات للقمع أو الحد، وهم يؤكدون أنّ مثل هذه المخالفات الفاضحة ترتكب من أصحاب النفوذ ومن يديرون أعمال المجلس وأقربائهم، وعددهم ليس بالقليل، ولن يقوم المواطن الفقير الذي يحمل هم الوطن وهم عيشه بفعل أعمال متجاوزة للقانون لأنّه بطبعه يلتزم بها ويقدرها.
•    ما هي الحلول؟
الآراء جميعها اتفقت على ضرورة أخذ الجهة المعنية لدورها الوطني والاجتماعي وفرض وجودها والتخفيف ما يمكن من مصادر النفوذ التي تخترقها علانية دون تردد أو خجل، ويجدون في الحكومة التي تسلمت مهام عملها مؤخراً بارقة أمل في اتخاذ إجراءات صارمة، وهذا لا يتطلب سوى المحاسبة والمتابعة وإلغاء التبريرات الواهية التي تطلق، ولا أحد فوق سيادة القانون. في جبلة اليوم فوضى تبدأ من خرق شارة المرور والاستهتار بوجود الشرطي الذي يقوم بتنفيذ مهامه، وتنتهي عند تطنيش المسؤولين على صعيد المحافظة ككل، وليس في مكان منها، فهل سيستمر الحال على ما هو عليه أم أنّ ثمة خطة تحملها الحكومة تشمل التغيير الكامل، وانتقاء الذين أبعدوا أو حوربوا وتم تجاهلهم بحجة الظروف الأمنية التي لا تسمح إلا لهؤلاء القائمين على عملهم ومن المؤكد أنّ السادة الوزراء من أبناء المحافظة على معرفة بواقع الحال وليسوا بحاجة لمن يخبرهم عنه.. فهل سيطول الانتظار؟