بعد الدور الاجتماعي للدولة المتآكل بفعل الحرب..هل نعيد ترتيب أولويات الحماية الاجتماعية حفاظاً على كرامة المواطن؟!

بعد الدور الاجتماعي للدولة المتآكل بفعل الحرب..هل نعيد ترتيب أولويات الحماية الاجتماعية حفاظاً على كرامة المواطن؟!

الأزمنة

الأحد، ٣١ أغسطس ٢٠١٤

*أحمد سليمان
بالرغم مما كان يشكو منه الدور الاجتماعي للدولة من ثغرات في العقود الماضية، إلا أنّ هذا الدور الذي بدأ يتراجع في سنوات ما قبل الأزمة، واجه في السنوات الثلاث الأخيرة الكثير من التحديات، بفعل الأعباء الاقتصادية التي تحملتها وتتحملها الدولة، بعد خروج القطاعات الاقتصادية والإنتاجية الرئيسية، من دورة الإنتاج، بفعل الإرهاب والتخريب الذي طال منشآت وفعاليات تلك القطاعات، وبالتالي تراجع الواردات التي كانت تؤمن من خلالها احتياجات القيام بهذا الدور.
لا يعتبر التخريب والسرقة والنهب والاعتداء على منشآت الدولة الإنتاجية الرئيسية وخاصة منشآت القطاع التي تجاوزت قيمة أضرارها نصف تريليون ليرة، المنعكس الرئيس السلبي على قيام الدولة بدورها الاجتماعي، لكن إنّ خروج أو تراجع الإنتاجية في القطاع الصناعي الخاص وفي القطاع الزراعي والقطاعات التجارية والخدمية الأخرى، كانت عوامل مجتمعة في تراجع الواردات التي كان يقدمها الفاعلون في هذه القطاعات من رسوم وضرائب تدخل خزينة الدولة، ناهيك عن حجم الأعباء المادية التي يطلبها التعويض عن الضرر بحياة المواطنين وأملاكهم التي لحقت بها نتيجة هذه الحرب من قتلى ومصابين ونازحين ومهجرين وفقدان فرص العمل، والتي كانت رافداً للخزينة العامة واليوم تحولت إلى عبء إضافي!.
 دعم مختلف الأشكال
إنّ الدور الاجتماعي الذي كانت تقوم به الدولة في سنوات ما قبل الأزمة والذي يبدأ من توفير وظائف وفرص عمل لنحو مليون ونصف مليون مواطن، ويمتد إلى تأمين الطبابة المجانية في مشافي الدولة، والتعليم المجاني حتى المراحل الجامعية العليا، وتحمّل جزء كبير من أعباء دعم حوامل الطاقة من كهرباء، ومازوت، وبنزين، وماء، ودعم عدد من السلع التموينية، إلى جانب أشكال الدعم الأخرى التي تقوم بها للفئات الاجتماعية بمختلف تصنيفاتها، تشكل جزءاً كبيراً من الميزانية السنوية للدولة، تصل قيمة فاتورتها إلى مئات مليارات الليرات، وبالتالي فإنّ هذه الحرب التي تجري على الأرض السورية إضافة إلى الأضرار التي لحقت بالقطاعات وبالناس تطلبت عبئاً إضافياً لزوم الدفاع عن أمن المواطنين والوطن وإعادة الاستقرار والأمان إلى ربوع البلاد.
بعد مختلف في سورية
 ومن هنا يأخذ المفهوم التقليدي للحماية الاجتماعية للدولة الذي تحدث عنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بعداً مختلفاً في سورية، عبر إضافة أبعاد أخرى لهذا المفهوم والقيام بخدمات لا تقوم بها الكثير من الدول حتى التي تطبق من حيث الشكل هذا الإعلان، حيث تشكل هذه الحماية أحد أسس التنمية التضمينية، التي يملك كل فرد حق المشاركة فيها وحق الانتفاع العادل من ثمارها، وتطوير وتنفيذ السياسات التي تضمن الرعاية الاقتصادية والاجتماعية للجميع في حالات البطالة والمرض وفترة الحمل ورعاية الأطفال والترمل والإعاقة، من خلال القيام بعدد من الأفعال والتدابير التي تهدف إلى حماية آلاف الأفراد من الوصول إلى مستويات غير مقبولة اجتماعياً من الحرمان، وتأمين الحاجات الأساسية لهم بشكل مستدام، بما في ذلك المياه والغذاء واللباس والسكن والرعاية الصحية والتعليم الأساسي, واستخدام أدوات تشمل التحويلات العمومية والاستهدافية، وخدمات عامة مدعومة أو مجانية، وبرامج التشغيل العام ودعم الدخل؛ ما يعني حصول الفرد على الحد الأدنى من الدخل والوصول إلى الخدمات الأساسية، إضافة إلى الاهتمام بالفئات الهشة وتعزيز النشاط الاقتصادي وتفعيل التشغيل وريادة الأعمال وتطبيق شروط العمل اللائق.
تعزيز إمكانيات وقدرات
 ويجد المركز السوري لبحوث السياسات أنّ المفهوم الموسع للحماية الاجتماعية يركز على تعزيز إمكانيات وقدرات الأفراد ورفع مستويات معيشتهم بدلاً من التركيز فقط على الحماية من المخاطر مثل تراجع الدخل أو المرض، ومواجهة الكوارث والأزمات الكبرى. معتبراً أنّ نظام الحماية الاجتماعية الفعال والكفؤ يقود إلى العدالة الاجتماعية والاستقرار الاجتماعي والتنمية الاقتصادية التي عملت الدولة في سنوات ما قبل الأزمة عليها جيداً, لتخفيف الاعتماد على الدولة وإخراجها من نطاق الدور الأبوي إلى دور أكثر فعالية عبر تنمية القطاعات وتوفير فرص عمل واسعة وواردات، ما يؤدي بالضرورة إلى عدم الاعتماد على الخدمات التي تقدمها الدولة وهو ما يؤدي إلى انخفاض الإنفاق العام تدريجياً ليصل إلى 24.9 % في عام 2010.
وفيما تؤثر الحركات الاجتماعية في أنظمة الرفاه وتقدِّم آفاقاً جديدة، يجد المركز في دراسة له حول هذا الموضوع، بأنّ ظروف عدم الاستقرار السياسي والعنف التي يمكن أن تصاحب هذه الحركات تشكل التحدي الرئيس للحماية الاجتماعية من خلال ما يؤدي إلى تخلخل المؤسسات القائمة نتيجة آثار العنف من حرمان وخوف وحاجة وأعمال القتل والنزوح وتغير أدوار الفاعلين وتراجع دور الدولة وازدياد دور المجتمع المدني والأهلي وتغير دور المجتمع الدولي.
استنزاف معظم ثروات المجتمع والدولة
ويقدم المركز إحصائية تتحدث عن منعكسات هذه الحرب التي أدت إلى أكثر من 130 ألف قتيل وأكثر من 520 ألف شخص جريح ومعوق و6 ملايين نازح داخل البلاد و2.35 مليون لاجئ و1.54 مليون مهاجر، مبيناً أنّ هذه الحرب عصفت بالحق في الحياة واحترام شخصية وكرامة الإنسان، واستنزفت معظم ثروات المجتمع والدولة المادية واللامادية ودمرت الممتلكات وخسر الملايين فرص العمل وتدهورت ظروف المعيشة وتعرضت لنكسات كبيرة في مجالات الخدمات والصحية والتعليمية والسكن والكهرباء والمياه والوقود والاتصال مع دخول معظم السكان دائرة الفقر وتحول الكثير من الموارد البشرية والمادية إلى تمويل العنف مع تأثر الانسجام الاجتماعي إلى حد كبير بانتشار العصبيات وثقافة الاستغلال وانحسار الثقة بالآخر مع معاناة النازحين واللاجئين من فقدان أمنهم الإنساني بحده الأدنى، ما أدى إلى تركز إمكانيات الحماية الاجتماعية على العاملين في الدولة وفقدان معظم الأسر المعتمدة على العمل في القطاع الخاص مصادر دخلها الرئيسية وتحول سياسة الحكومة تجاه الحماية الاجتماعية إلى برامج طارئة لتلبية الاحتياجات الإنسانية الملحة، وتوسعت الحماية الاجتماعية المستندة إلى المجتمع المدني والأهلي، مع بروز دور التحويلات الخارجية من المغتربين والمنظمات الدولية والدول في تقديم الدعم لفئات مختلفة من المجتمع، لكن الحاجات أكبر بكثير من المساهمات المقدمة خاصة مع استمرار الأزمة وتعقدها وتوسعها وإعادة تخصيص ما تبقى من موارد للقتال والمقاتلين في زيادة معاناة المواطنين وفقدان الأمن الإنساني وفقدان مقومات السكن المناسب والاستقرار وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية ومقومات الأمن الغذائي وفقدان كبير في فرص العمل ومصادر الرزق وتراجع إمكانيات شبكات الأمان الأهلية والأسرية.
نموذج تنموي جديد
 إنّ تكامل سياسات الحماية الاجتماعية بمفهومها الواسع مع سياسات التنمية هو المطلوب كما تحددها دراسة المركز الذي يجد أنّ الحرمان من منظور الحماية الاجتماعية يتعدى النظرة المادية إلى الحرمان اللامادي، ما يتطلب نموذجاً تنموياً جديداً يضع العدالة الاجتماعية والحماية الاجتماعية في صلب عملية التنمية عبر سياسات وإجراءات جادة ومبتكرة لتخفيف معاناة المواطنين وبالتالي الحاجة إلى دور تنموي واسع للدولة والتزام بمبدأ التغطية العمومية والشراكة مع المجتمع المدني والقطاع الخاص وتأمين حقوق متساوية لكل الأشخاص وإمكانية استفادتهم من التقدم الاقتصادي والاجتماعي دون تمييز، إلى جانب عودة الاهتمام بقضايا العدالة الاجتماعية مع تطور مفهوم التنمية البشرية وربط العدالة بوجود مؤسسات تشاركية وعادلة وشفافة تتبنى المساءلة وتعزيز العدالة في الجانب المادي واللامادي، وأخذ آراء الأفراد ومشاركتهم في القرار والحفاظ على كرامتهم واحترام وجودهم.
إعادة الاعتبار للإنسان
 ومن هنا لا بد من إعادة النظر جذرياً في مفهوم الحماية الاجتماعية في ظل جذور وآثار الأزمة الراهنة والتطورات الدولية الحديثة في هذا المجال عبر التركيز على حماية كرامة واعتبار الإنسان كعماد قضية الحماية وقيام مصالحة وطنية شاملة قائمة على الحقوق, وبناء دولة تنموية وتضمينية وعادلة وتشاركية يتم من خلالها إعادة الاعتبار للإنسان ومواجهة الأضرار المادية والمعنوية واستعادة الإنسجام الاجتماعي وضمان والمشاركة الفعالة للجميع من خلال نظام جديد يستند إلى رؤية تنموية واضحة ومشاركة واسعة في صياغة عقد مجتمعي جديد يضع القيم والأسس التي تحكم المجتمع في المستقبل عبر بناء مؤسسات كفء وشفافة ومساءلة وتشاركية للحماية الإنسانية.
 إذ إنّ وضع حزمة متكاملة من التشريعات التي تصمم بناء على رؤية تنموية جديدة هو ما يؤكد عليه المركز في دراسته لضمان مشاركة المواطنين وضمان حقوقهم وتوسع فرص المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية والثقافية على مستوى التمويل وتنويع الموارد مع ضرورة تصميم نظام مالي تكافلي بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني يقوم على توفير الموارد المالية والبشرية لضمان الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية.
 حفاظاً على كراماتهم
أيا كانت الرؤى والمقترحات التي تضعها مراكز الأبحاث والدراسات في هذا الإطار قد تكون سنداً للقوانين والتشريعات والقرارات والإجراءات والبرامج التي ستوضع في هذا المجال لكن ليست دائماً العبرة في كل ما يوضع إنّما العبرة في التنفيذ, وهو ما يتطلب إرادة صلبة وإدارة مرنة ومقومات الدعم لتنفيذ جوهر ومضامين هذه البرامج لتكون في خدمة كل المواطنين حفاظاً على كرامتهم.