قراءة في المجموعة الشعرية “بنت الريح” للشاعر حسام غانم

قراءة في المجموعة الشعرية “بنت الريح” للشاعر حسام غانم

شاعرات وشعراء

الأحد، ٥ نوفمبر ٢٠٢٣

 

هويدا محمد مصطفى
 
أيمكن للقصيدة التي تنظم فيها الأصوات أن تتجاوز في موقعها من العالم كل التضاريس الشحيحة، وتغيب البور بماء العمق واللجة الغنية بالأسرار، وهل يستطيع الشاعر أن يمنحها كل الشروط النفسية والمكانية لتؤدي وظيفتها الجمالية.. هذا ما قرأته في المجموعة الشعرية “بنت الريح” للشاعر حسام غانم، فالعنوان له شعريته الخاصة فثمة علاقة وطيدة بين القصيدة والعنوان، فهي علاقة الجزء مع وحدة النص و”بنت الريح”مشهد من الفلسفة والدلالة الشعرية النابضة بمفردات متنوعة وعالماً خاصاً وكسراً للمألوف، فكل قصيدة تتحول إلى فضاء أوسع من الدلالات والمعاني والرسائل المشفرة
 
ففي قصيدة بعنوان “ليست إلا هي” يقول الشاعر: تحاصرني كا الهواء المشبع بالندى/ يغترب الصدى وإن هي تبسمت/ والأعناب تنضج فوق سهودها/ التي لاتشبه السهود/ هي كهي ../ لؤلؤة فريدة لا تشبه اللألىء/ ولا اختزنت قبلها خزائن الملوك../ ولا تزينت بمثلها العقود.
 
 
 
في هذا النص تغوص مفردات الشاعر في الكشف عن الأعماق اللغوية ذات المعاني  والاشتقاقات المبتكرة، لقد هيأ الشاعر في قصيدته فرقة رقص معاصرة وهو مرتاح إلى سكبته الأولى، وقد تجاوز معها القوالب الجامدة مدركاً أن الوظيفة الجمالية في الشعر مرتبطة بوجدان الشاعر قبل أي أمر آخر.
 
وفي قصيدة بعنوان”ورقة بيضاء” يقول الشاعر: سفاح هذا الشعور
 
يدورفي رأسي والدنيا تدور/ أعلقك في خيالي من رمشيك/ أبدأ نحتك من هضبتي نهديك../ أنفث فيك زوابعي وكل أشكال العود والبخور/ أرسمك على مقاس اللاورق/ أنبتك بين حشائش صدري كشتول النرجس والحبق.
 
ولئن كانت الأنثى التي حط بها في عاصمة المجاز المرسل حيث الحب أمير الغيوم التي ستمطر بتعبيرات دافئة وتناغم مسبوك في بنيتها الفنية عبر تدفق الصور ورشاقتها المتقدة التي ارتقت فيها عاطفة الشاعر وتوهجت لغته الرقيقة، فثمة إيقاع لافت بالانفعالات والاستعارات التي تعلو التخييل لدى الشاعر.
 
وفي قصيدة بعنوان “بنت الريح” يقول الشاعر: تقول يا ابن الوقت
 
أنا ابنة الريح/ كل العواصف تخفق في دمي/ كل الحروف تولد و تترمد على فمي/ والتعب ينام على صدري كي يستريح . ../  كل وجوه القمر تشبهني/ كل حالات البحر ترسمني/ والنور دون هالتي ليس كالنور…./ والليل دون ضحكاتي/ طويل جداً… وجداً قبيح
 
هنا نجد أن النص يطل من شباكه المفتوح على البحر والسماء وينتعل الدرب الطويل في غابات الحنين يخيط من الريح سكنه المؤقت ولا يستقيل من تعبه حتى تثور من حوله الريح تقرأ القصيدة فتلامس كل مسارات القلق دون أن تدري فهو يبني عمارته الشعرية على طريقته ويختار ما يلائم ذوقه في دراية ومخيلة الشاعر.  هنا تخترق الأبعاد وتمتلك القدرة على التجاوز والتخطي .
 
وفي قصيدة بعنوان “حارة القبور” يقول الشاعر: تمر في ذاكرتي  تشتعل سريعاً/ كاشتعال البخور وكأننا نحتطب الموت/ ونعتاش على لقائه مجبرين منذ بدء الخليقة/ والنفاذ روزنامة العصور/  يا موت .. لي موعد مع الحب لا يحتمل موتي/ لي وقت مع السطور لا يعترف بصمتي.
 
وفي تنهيدة حزينة يصور فيها الشاعر الموت وخطاب يطرح صرخة العالم برؤية متمردة لكنها مطلية بالفزع والنزعة المعقدة عن حكايات الموت ليخرج هذا النص إلى الوجود بجنازته الوهمية الخالية من المراسم، ويظل السؤال متعدد الجوانب. استطاع الشاعر في تشخيصه لحدث الموت أن يحتفظ بهوية المتمرد عليه، وتمكن من التوفيق بين الاتجاهات المتعاكسة في هذا الجانب.
 
وفي قصيدة بعنوان “رسائل تشرينية” يقول الشاعر: في زمن تساقط الأوراق تقول لي:/ كل العشاق قبلنا ومن بعدنا ../ وقعوا على النهايات بجرة عناق فماذا أنا أكون/ وماذا عساك تكون سوى قطرتين من المطر.
 
هنا تبدو مفردات الشاعر موزعة على الألوان كما الفصول، ولكن وفق مقاسات اللغة الناضجة عبر آلة نفسية موجعة وتشد القارئ جهودات الغيرية الممتدة لبنية القصيدة الداخلية والتصويرات البلاغية والمقاربات في الكشف الفني الجميل للتشبيهات المتعددة والرسائل التي أخذنا إليها الشاعر عبر سفره الباطني نحو تساؤلات كثيرة ومثيرة.
 
وفي قصيدة بعنوان “دار” يقول الشاعر: يضمني الجدار حين يتمدد ظلي على حافة الجدار/ تعزف الحجارة على قيثارة روحي…../ وتمسح عن جبيني آثار البعد المتراكمة والغبار أناجيك يا دارنا/ ماذا أصابك/ وماذا حل برائحة الأحبة فيك…
 
ظاهرة التكرار التي برزت في النص من حيث المدلول اللغوي قد لا يخدم الفن الشعري ولا يحمل معانيه إنتاجاً معرفياً يدل على تحديد المستوى الفني فيأخذنا لمشاهد ساطعة تبقيه المهندس القابض على أسرار مهنته فهناك موجات متتالية من الدفق الشعوري مرتبطة بحضور الآخر لتمتزج الجمالية الشعرية التعبيرية بالمعنى الموجه برقة التعبير الخفي والعلني وبذاكرة تفيض ببراعة الذكاء العاطفي والشاعرية التي تلامس الوجدان.
 
وفي قصيدة بعنوان “شبابيك” يقول الشاعر: مري على هذا الصفيح
 
مري تلويحاً أو بعض تلويح/ أنا الآن أستريح من عناء القلب ..والقلب يأبى أن يستريح . …/ كلانا نضم قصيدة لم تكتمل
 
الموج يدغدغ حوافها/ والريح تضطرب/ وتنتحل وجهي الريح.
 
يحترق الشاعر في هذا النص عبر استخدام أنانته الروحية في تحريك الأفعال الماضوية باتجاه التفاؤل أحياناً، وهو يعكس نزعة التمرد ويسكب أوجاعه في قارورة عطر ملأى بمحطات الرؤية ودهشة المقاربات التي أدلت بها النصوص.
 
وأخيراً أقول أن المجموعة الشعرية “بنت الريح” للشاعر حسام غانم تنوعت القصائد مابين الوجداني والإنساني والغزلي، فالنصوص الشعرية تتصل بالإشارات دائماً على الرغم من سهولتها في التفسير، والشاعر حسام ينقح لغته ليتواصل مع نصوصه إلى العمق عبر مداخل وفكر عاطفية وإنسانية هادفة فكل نص تميز بروعة التكثيف وإبهاره الماتع في خلق صورة فنية مغايرة لجذب القارئ والتحليق في عوالم الدهشة الشعرية.