حرية العقيدة في القرآن الكريم

حرية العقيدة في القرآن الكريم

ثقافة

الاثنين، ٨ مارس ٢٠١٠

حرية العقيدة في القرآن الكريم

 


موجز للمحاضرة التي ألقاها

المحامي الدكتور حمزة أحمد حداد

في

مؤتمر الحقوق الجوهرية

جامعة القديس يوسف – لبنان

 

أولا:    القرآن بالنسبة للمسلمين

يعتبر القرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس الوحيد، وهو المصدر الأول من مصادر الشريعة الإسلامية. ويجمع المسلمون على ان القرآن الذي بين أيديهم الآن هو ذات القرآن الذي تم به الوحي من عند الله سبحانه وتعالى إلى النبي محمد (ص) منذ حوالي أربعة عشر قرناً. فهو الذي يتلى ليلا نهارا منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، سواء في الصلوات الخمس اليومية، وهي الصلوات الإجبارية، أو في صلاة النوافل الاختيارية، أو يُقرأ من قبيل التعبد والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. والقرآن هو دستور المسلمين الذي طبقه محمد (ص) وقامت الدولة الإسلامية على أساسه ابتداءً، واستمر ذلك في مختلف الدول الإسلامية حتى الآن. بالإضافة إلى ان هناك حفظة القرآن الذين يحفظونه عن ظهر قلب في كل زمان ومكان، حتى من أشخاص وأقوام لا يعرفون من لغة القرآن، وهي اللغة العربية، سوى قراءتها بأحرف وكلمات غير مفهومة بالنسبة لهم. لذلك، يمكن القول بأن من الأشياء القليلة التي يتفق عليها المسلمون، على اختلاف أصولهم ومذاهبهم، وحدة القرآن الكريم وثبات نصه، وانه من عند الله سبحانه وتعالى.

ومتى آمن المسلم بالقرآن على هذا النحو، فإنه يترتب على ذلك إيمانه الحتمي بأن محمدا (ص) هو نبي الله ورسوله، وبكل ما جاء في القرآن من معلومات أخرى، وأوامر ونواهي بما في ذلك العبادات من صلاة وصوم وحج بالإضافة للزكاة.

وقد نزل القرآن الكريم على محمد (ص) على فترات وليس دفعة واحدة. وفي هذا الشأن يقول القرآن "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا" (الفرقان: 32). وبالنسبة لمسألة التنزيل هذه، يتبين من القرآن الكريم ما يلي:

1- كان يتم تنزيل الآيات القرآنية بواسطة الوحي المسمى في القرآن (جبريل) عليه السلام. ويشير القرآن الكريم إلى ذلك بقوله "قل من كان عدواً لجبريل فانه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين" (البقرة: 97). ويقول في آية أخرى "وانه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين" (الشعراء: 192-194).

2- كان تنزيل الآيات على قلب محمد (ص) يتم بقراءتها عليه. ويقول القرآن الكريم هنا "سنقرؤك فلا تنسى " (الأعلى: 6).

3- وبعد اكتمال نزول القرآن الكريم، جمعه الوحي وقام بتلاوته (قراءته) كاملا على النبي (ص) الذي حفظه، واتبع ذات القراءة التي تليت عليه، وهي قراءة واحدة لا يوجد غيرها. ويقول القرآن في هذا المقام:

- "سنقرؤك فلا تنسى" (الأعلى : 6).

- ".... ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه، وقل ربّ زدني علماً (طه: 114).

- لا تحرك به لسانك لتعجل به. ان علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم ان علينا بيانه." (القيامة: 16-19).

والوضع الطبيعي عندئذ ان يتلوه محمد (ص) على من حوله من المسلمين حرفيا كما جاءه  من الوحي باعتباره قرآناً واحداً. والوضع الطبيعي كذلك ان يتم حفظه أو حفظ أجزاء منه من قبل كل مسلم، كل حسب طاقته وقدرته، وان يتم تدوينه من قبلهم مباشرة في عهد صاحب الرسالة وقارئ القرآن عليهم (محمد ص)، باعتباره (أي القرآن) هو دستور حياتهم في الدنيا والآخرة وهو أساس وجودهم وإيمانهم كمسلمين، وانهم لا شئ من غيره. وهذا هو حال كل مسلم في علاقته بالقرآن منذ ذاك الوقت وحتى الآن، بحيث لا يكاد يوجد بيت مسلم إلا وفيه نسخة واحدة على الأقل من القرآن. ومما تجدر الإشارة هنا إلى ان كل نسخ القرآن الكريم في مشارق الأرض ومغاربها متطابقة حتى بالحرف الواحد. وعلى ذلك، فان القول بأن تدوين القرآن تم في عهد الخليفة عثمان بن عفان، بالطريقة التي وردت في مختلف كتب الفقه التقليدية يثير شكاً كبيرا في صحة هذه الرواية، بل ان ذلك يطعن في صحة القرآن الكريم نفسه.

وبناء  عليه، فإن خير ما يستند إليه المرء لمعرفة مدى حرية العقيدة في الإسلام هو القرآن نفسه وليس ما دونه. ومن هذا المنطلق آثرنا ان نعالج موضوعنا وفق القرآن الكريم دون غيره، وخاصة ما نسب إلى النبي محمد (ص) من أحاديث يكثر الجدل واللغط على مر العصور حول مدى صحتها أو صحة العديد منها، كثر ذلك أو قلّ. ومن نافلة القول انه لا يجوز نسبة الادعاء بحديث عن النبي (ص) يكون متعارضاً مع النص القرآني، وإلا كان الادعاء كاذباً. نقول ذلك لأن القرآن الكريم يقوم، كما سنرى، على حرية العقيدة المطلقة، في حين نسب إلى النبي (ص) حديث مفاده وجوب قتل من يبدل دينه. وفـُهم ذلك، على وجه الخصوص، بأنه يتعلق بالمسلم الذي يترك دينه لدين آخر غير الإسلام. إذ يعتبر مرتداً في هذه الحالة ويجب قتله إذا توفرت شروط معينة.


ثانيا:   الإجبار في العقيدة

هناك عشرات الآيات القرآنية التي تؤكد بوضوح على حرية العقيدة. واعتقد ان مثل هذا الأمر طبيعي ومنطقي ما دمنا نقول بأن الإسلام دين الله. إذ لا يتصور ان يرسل الله بشرا رسولا (محمد ص) للدعوة لدين الله، ويطلب منه في الوقت ذاته فرض هذه الديانة على الآخرين وإجبارهم على اتباعها. ولو شاء الله سبحانه وتعالى ذلك، لما خلق البشر ابتداءً، أو لخلقهم مع فرض العقيدة عليهم فرضاً بمشيئته وقدرته دون حاجة لإرسال الرسل. وهو ما تؤكده الآيات الكريمة بصورة جازمة، نسوق منها فيما يلي بعض الأمثلة:

- "..... ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ...." (المائدة: 48).

- "ولو شاء الله ما أشركوا .... " (الأنعام: 107).

- "قل فللّه الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين" (الأنعام: 149).

- "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ......" (يونس: 99).

- "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ....." (هود : 118).

- ".... ولو شاء لهداكم أجمعين" (النحل: 9).

- "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ...." (النحل : 93).

- "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ...." (السجدة : 13).

- "ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ...." (الشورى: 8).

كما ان فرض العقيدة من إنسان على آخر غير وارد عملاً، لأن الإيمان شيء داخلي يقوم على النية، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم بالقلب أحيانا، وبالصدر أحيانا أخرى، وبالنفس أحيانا ثالثة. ويفترض في مظاهر الإيمان الخارجية، من عبادات وغيرها، انها تعبر عن تلك النية الداخلية التي يوجد فيها الإيمان، وإلا لا يعتد بتلك المظاهر من الناحية الدينية. ولا أحد، كائنا من كان، يعرف النية في القلب أو الصدر أو النفس، إلا الله سبحانه وتعالى وصاحب تلك النية. وعليه، يمكن القول بوجود ربط بين النية الداخلية وبين العمل أو المظهر الخارجي. وعلى سبيل المثال، لا عبرة بالصوم المادي دون نية العبادة، وانما كان ذلك تمشيا مع الصائمين أو بنية تخفيف الوزن. كما انه لا عبرة لنية الصوم أو الحج ولكن دون صيام حقيقي في الحالة الأولى، ودون القيام بشعائر الحج في الحالة الثانية مع القدرة عليهما . ونجد مثل هذا الربط واضحاً في القرآن الكريم وذلك في الأوضاع العادية المألوفة. ومثال ذلك ما يلي:

- "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الدّ الخصام" (البقرة : 204).

- "..... ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ........."        (البقرة: 283).

ولكن في الأوضاع غير الطبيعية المألوفة، إذا كان القلب سليما إلا ان صاحبه لا يستطيع ان يعبر عما في داخله لسبب أو لآخر، فالعبرة لما في ذلك القلب من إيمان ومن نوايا حسنة، حتى لو كان المظهر الخارجي يدل على عكس ذلك بل حتى إلى درجة الكفر (الظاهر) بالله سبحانه وتعالى. ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم ما يلي:

- " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم"          (النحل: 106).

- ومثال آخر لشخص من آل فرعون كان مؤمنا بقلبه وكافراً بظاهره (على ما يبدو خوفاً من فرعون). يقول القرآن الكريم في هذا الشخص "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا ان يقول ربي الله ....." (غافر: 28). وكان مصير هذا الرجل ما جاء في القرآن بشأنه من انه "فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب"       (غافر: 45).

ويدل ذلك على أمور كثيرة منها واقعية الإسلام كدين عملي لا نظري. فلا يطلب من الإنسان إلا ما يستطيعه ولا اكثر من طاقته وقدرته الإنسانية وهو ما أكدته العديد من الآيات القرآنية منها ما يلي:

- "... لا نكلف نفساً إلا وسعها ....." (الأعراف: 42).

- " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ......" (البقرة: 286).

- "... ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما" (النساء : 29).

- "ولا نكلف نفسا الا وسعها ....." (المؤمنون : 62).

- "فاتقوا الله ما استطعتم..." (التغابن : 16).

- ".... لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا"        (الطلاق : 7).

ثالثا:    آيات على حرية العقيدة

وبعد ذلك نقول انه ورد العديد من الآيات القرآنية الكريمة التي تؤكد على حرية العقيدة في الإسلام. ويمكن تقسيم هذه الآيات إلى قسمين: الأول – يتعلق بحرية العقيدة ابتداءً، أي لمن شاء ان يدخل في الإسلام أو شاء ان لا يدخل.   والثاني – خاص بمن دخل في الإسلام (أو الإيمان) ثم ترك دينه إلى أي دين أو معتقد آخر.

القسم الأول: حرية الدخول في الإسلام

ومن الأمثلة على هذا القسم الآيات التالية:

- "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة : 256).

- "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..."        (الكهف: 29).

- "ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا" (الانسان : 29).

- "قل الله اعبد مخلصاً له ديني. فاعبدوا ما شئتم من دونه..."            (الزمر : 14، 15).

- "قل يا أيها الكافرون. لا اعبد ما تعبدون. ولا انتم عابدون ما اعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا انتم عابدون ما اعبد. لكم دينكم ولي دين"        (الكافرون : 1-6).

- "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس : 99).

- "... فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل" (يونس: 108).

- "وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل" (الأنعام : 66).

- "فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر" (الغاشية : 21، 22).

- "ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل" (الأنعام : 107).

- "قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما انا عليكم بحفيظ" (الأنعام : 104).

- "ربكم اعلم بكم ان يشأ يرحمكم وان يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا" (الإسراء : 54).

- "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا" (الفرقان: 43).

والحقيقة ان ما جاء به محمد (ص) من حيث حرية العقيدة، لا يختلف عما جاء به الرسل الذين سبقوه، ما دام ان الديانات السماوية هي من عند الله لا فرق فيها بين ديانة وأخرى. ومن أمثلة ذلك ما يلي:

1- فهذا نوح (عليه السلام) يقول لقومه: ".... يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وانتم لها كارهون" (هود : 28).

2- وهؤلاء عاد قوم هود (عليه السلام) يرفضون مختارين دعوته إلى الله ويقولون له ".... يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين" (هود: 53).

3- وهؤلاء ثمود قوم صالح (عليه السلام) رفضوا دعوته قائلين له ".... يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا ان نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب (هود : 62).

4- وهؤلاء مدين قوم شعيب (عليه السلام) قالوا له في نهاية الأمر "..... يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وانا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز" (هود : 91).

القسم الثاني: حرية الخروج من الإسلام (الإيمان)

والإسلام يقوم على الإيمان الذي هو شيء كامن في النفس أو القلب ولا يعلم به، كما ذكرنا، إلا الله وصاحب تلك النفس أو ذلك القلب. لذلك أيضا، من الطبيعي ان يترك لصاحب الشأن حرية ترك إيمانه في الحياة الدنيا، وهذا شأنه. ولكنه يتحمل آثار ذلك في الآخرة. وهو ما يؤكده القرآن الكريم. ومن أمثلة ذلك ما يلي:

- "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (البقرة : 217).

- "ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا" (النساء : 137).

- "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ..." (المائدة: 54).

- "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (ال عمران: 144).

- "ان الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون" (آل عمران: 90).

- "... من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل" (البقرة: 108).

ومرة أخرى، فإن هذه الآيات الكريمة أيضا واضحة في حرية العقيدة الدينية. من حيث الدخول في الإيمان والخروج منه دون إكراه ما دام هذا هو قراره، ولكن، كما ذكرنا، فإنه يتحمل تبعة ذلك القرار في الآخرة وليس الدنيا. ولو طبقنا ذلك على الإسلام بوجه خاص، لقلنا بأنه لا عقوبة جزائية دنيوية على مجرد ترك شخص ما للإسلام والانتقال لدين أو مذهب آخر، وذلك خلافا للرأي السائد في الفقه الإسلامي كما سنرى في البند التالي.

 


رابعا: حكم المرتد في التراث الإسلامي

تذهب مختلف كتب التراث الإسلامي إلى قتل من يرتد عن دين الإسلام، وسندهم في ذلك إلى ما نسب إلى النبي محمد (ص) من حديث بأن "من بدّل دينه فاقتلوه"(1).

فالبخاري مثلا، نقل هذا الحديث عن شخص اسمه علي بن عبد الله، الذي نقله عن شخص آخر اسمه سفيان، الذي بدوره نقله عن شخص ثالث اسمه أيوب، الذي نقله عن شخص رابع هو عكرمة ومن ثم عن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، الذي نقله عن شخص خامس هو ابن عباس الذي نقله، أخيراً، عن النبي (ص)(2). اما البيهقي، فقد نقل هذا الحديث في السنن الكبرى عن شخص اسمه عبد الله الحافظ، عن آخر هو أبو العباس محمد بن يعقوب، عن ثالث هو الربيع بن سليمان، عن رابع هو الشافعي، عن خامس هو بن عيينة، عن سادس يدعى أيوب بن أبي تميمة، عن سابع هو عكرمة، عن ثامن هو علي كرم الله وجهه، عن تاسع هو ابن عباس ثم عن المصدر العاشر وهو النبي (ص)(3).

وتجدر الإشارة هنا إلى ان البخاري ولد عام 194 هجري، أي بعد ما يزيد على (180) عام من وفاة النبي (ص)، في حين ولد البيهقي عام (384) هجري أي بعد ما يزيد على (370) عام من وفاته عليه الصلاة والسلام.

على أي حال، فإن قتل المرتد يؤدي عملا إلى وجود جيش من المنافقين في صفوف المسلمين خوفاً على حياتهم، وهو أمر طبيعي في النفس البشرية. فإذا كان الشخص مهدداً بالقتل ان لم يرجع إلى دين الإسلام، فانه يفضل، في غالبية الأحوال، الادعاء بأنه مسلم بل لان يصبح مسلما (في الظاهر) اكثر من المسلم الصحيح المليء بالإيمان لدرجة انه قد يزاود عليه، وهذا هو النفاق بعينه. كل ذلك، في الوقت الذي يحارب فيه القران الكريم المنافقين ويهاجمهم بشدة ويعتبر انهم أعداء الله ورسوله، حتى ان هناك سورة في القرآن باسم المنافقين وجاء فيها عنهم ما يلي:

- "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون" (الآية 1).

- "اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله انهم ساء ما كانوا يعملون      (الآية 2).

- "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" (الآية 3).

- "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله انّى يؤفكون"   (الآية 4).

- "......... ان الله لا يهدي القوم الفاسقين" (الآية 6).

- "........ ولكن المنافقين لا يفقهون" (الآية 7).

وفي آيات كريمة أخرى، يقول تعالى عنهم:

- "ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا" (النساء : 142).

- "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ......" (النساء : 143).

- "يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا ان الله مخرج ما تحذرون (التوبة: 64).

- "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم ان المنافقين هم الفاسقون" (التوبة: 67).

- "وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ....." (التوبة: 101).

- "ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم ....." (الأحزاب: 48).

وعلى ذلك، فان من صفات المنافقين الكذب، سوء العمل، لا يفقهون، هم العدو للإسلام والمؤمنين، الخوف، الفسق، يخادعون الله والرسول، مذبذبين، يراءون الناس، الاستهزاء بالنبي وبدينه، يأمرون بالمنكر، ينهون عن المعروف، الإيذاء.

أما مصيرهم، فقد جاء في القران الكريم بشأن ذلك ما يلي:

- "بشر المنافقين بأن لهم عذاباً اليماً" (النساء : 138).

- "ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار" (النساء : 145).

- "وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ..."       (التوبة : 68).

- "... مأواهم جهنم وبئس المصير" (التوبة : 73).

فإذا كانت تلك الصفات السيئة لصيقة بالمنافقين، وكان هذا هو مصيرهم، فكيف يرضى مسلم عاقل بهم في صفوفه؟! لا شك بأن الادعاء بقتل ما يسمى بالمرتد عن دين الإسلام، ونسبة ذلك إلى الرسول (ص) هما موضع شك كبير أمام نصوص القرآن الكريم القطعية الثبوت، في الوقت الذي يجمع فيه المسلمون على كذب كثير من الأحاديث المنسوبة للنبي (ص). فإذا تعارض أو اختلف الحق (القرآن الكريم) مع الظن أو الشبهة (الادعاء بالحديث)، فالغلبة للحق وهو ما يؤكده القرآن الكريم نفسه في العديد من الآيات منها:

- "...... ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا" (النساء : 157).

- "...... ان يتبعون إلا الظن وان هم إلا يخرصون" (الأنعام: 116).

- "وما يتبع أكثرهم إلا ظناً ان الظن لا يغني من الحق شيئا ........"      (يونس: 36).

- "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار" (ص : 27).

 

 


الخلاصة


ونخلص مما سبق، بأن القرآن الكريم أجاز حرية العقيدة بصورة واضحة من جانبين: حرية إرادة غير المسلم (الدنيوية) في ان يبقى على دينه وان لا يدخل الإسلام. وإذا دخل الإسلام، فله أيضا حرية الإرادة (الدنيوية) بترك دينه الجديد (الإسلام) واتباع أي عقيدة أخرى ولا عقوبة دنيوية عليه. ويطبق هذا المبدأ الأخير من باب أولى على من يولد مسلما بالانتماء لأبويه وخاصة والده. وفي جميع هذه الأحوال، فإن الحساب والعقاب على ذلك هما لله سبحانه وتعالى وليس لغيره من بني البشر.

الدكتور حمزة حداد
وزير العدل الأردني السابق