عبد القادر عياش كالفرات يعطي دون مقابل! (2).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

عبد القادر عياش كالفرات يعطي دون مقابل! (2).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الجمعة، ٦ يونيو ٢٠١٤

الفرات لم يتوقف عن العطاء، لكن عبد القادر عياش توقف.. توقف بالانتقال من دنيا الناس إلى الآخرة، بعد أن ضرب لنا مثلاً في الحب الأصيل والنبيل؛ حب الوطن وإنسانه وأنهاره وغدرانه، وسهوله وحيوانه، وطيره وزواحفه، وجباله وباديته. وسمائه بشمسها وقمرها ونجومها ومجرّتها.. هذه المعالم والرموز مرّ بها عيّاش في تضاعيف عطائه النظري؛ ثم أمسك بأيدينا ليضعنا في عطائه التطبيقي ورحاب المتحف الذي أنشأه في منزله للتقاليد الشعبية المتوارثة في بلده (دير الزور) فرأينا أن هذا المتحف يضم إليه مجموعة من السلاح التراثي الشعبي ومنها أنواع متعددة من العصيّ والآنية والأختام والساعات والرحى وأسرة الأطفال.. ونسأله:
   
ما أبعد تاريخ لقطعة ما في هذا المتحف، ولو بشكل تقريبي؟
-    هنالك مهد للطفل الصغير، عبارة عن جذع شجرة محفور يرجع تاريخه إلى مئتي سنة تسمّى عندنا (الفشخة) بكسر الفاء وسكون الشين وكسر الخاء ثم سكون، وهي بمعنى النصف، وهي وسيلة للبركة وإطالة العمر كما اعتقد الناس، لهذا فلقد كانوا يتبركون بها ويعتقدون أن من ينام فيها سيعمّر طويلاً كما يعمّر هذا المهد. ولجميع المعروضات سجل يحوي اسمها ومتى دخلت إلى المتحف ومن أين وفي أي تاريخ، وكيف تمّ اقتناؤها شراء أو هدية.. الخ.
   
لك موقف من المسرح تقرر فيه أن العرب عرفوا هذا الفن ومارسوه فعلاً، بينما الشائع لدينا أن فن المسرح جديد في حياتنا فعلى أي شيء استندت في قرارك هذا؟
-    المسرح محاكاة. ولهذا فإن الشعوب لا تخلو منه بشكل من الأشكال، وإن اختلفت الشعوب بنوعية المسرح واتخاذه والترتيبات المتصلة به. يجوز أن يتقدم شعب على شعب في هذا المضمار مثل اليونان، حيث عني سيفوكليس، كشخصية مثقفة ومستنيرة وحاكمة أيضاً، به فأعطى جهوده كلها له حتى غدا ما هو عليه عند الشعب اليوناني. أما بقية الشعوب فلقد التفتت إلى مجالات أخرى، كما لدى الصين في خيال الظل مثلاً. أما عند العرب فثمة مسرحية مثل(الحسين) التي تعاد بهذه الصورة أو تلك على الطبيعة. وفي البدو- حتى- ثمة ظواهر مسرحية وعندنا في دير الزور لعبة مسرحية جميلة اسمها (أوزيوزي) يمثلها شخص واحد، على شكل دمية، يستعمل يديه ورأسه ورجليه ويتحرك ويشهده أناس كثيرون في ضوء القمر، فيقلّد عدة أصوات ومنها قوله:
                        " يازيوزه   رجلك غَزَه     على عِنزَه"
ثم يستلقي على ظهره وهو يحرك يديه ورجليه تجسيداً للمشهد وقد قرأ الأستاذ نجاة قصاب حسن وصفاً لهذه اللعبة في مجلة (صوت الفرات) وكان عائداً لتوه من تونس بعد أن كان قد تجول في ريفها فروى لي أنه شاهد نفس اللعبة في ريف تونس
   
هل هذه اللعبة قريبة من( الأراجوز) المعروف بالقطر المصري؟
-    الأراجوز دمى متحركة خلف الشاشة أما هذه فهي شخص حيّ نابهٌ وبارع في التمثيل يأخذ شكل دمية يقلد عبرها أصوات الحرب والمرأة و....
وفي دير الزور ثمة تمثيلية تراجيك لم أجد- فيما أعتقد وفيما قرأت – نظيراً لها في المسرحيات العالمية، ولا ينقصها حتى الدّم، حيث يسيل فعلياً من الأشخاص وهذا ما لم يعرفه اليونانيون في تاريخهم المسرحي، وهي تعرض على الطبيعة محلياً، بيد أنها تسجل ليعرفها الناس خارج النطاق المحلي ولهذا ظلت محصورة في نطاق ضيق.
تقام هذه المسرحية في اليوم الثالث من العرس تلقائياً، حيث يجتمع فرسان من المدينة ومن الريف يلتفون حول جمل مزين بقطع الحرير ثم يؤتى برجل في زي امرأة يمثل أخت الزعيم أو زوجته أو أمه، تعتلي الجمل وترافق الفرسان للغزو لكي تثير حماستهم للقتل، فيتفانى هؤلاء بغية الدفاع عنها كي لا يسبيها الأعداء ولهذا تسمى (العُطفة) أي إنها تعطف الفرسان.
   
اسمها ( العمارية) في حماة حسب ما أعلم
-    نعم. لأنها تعمّر المعركة. واسمها (عبلة) بحلب. غير أنها في دير الزور تأخذ طابعاً تراجيدياً مأساوياً، حقاً حيث يخرج الفرسان بـ (العطفة) إلى البرية القريبة وهناك ينقسمون إلى فريقين مهاجم ومدافع، فتنشب معركة فعلية مع أنها تمثيل لا أكثر، تنتهي بدماء فعلية لم يقو على تحقيقها أيما مسرح قديم أو معاصر. ولكل من هذين القسمين اسم خاص به في المسرحية. قسم ( الغوارة) وقسم (الكمين) ولها فصول تبدأ ثم تنتهي وفقاً لأدق معطيات المسرح الكلاسيكي. مهمة الغوارة الهجوم على الفتاة لنهب زينة الحمل من الحرير بينما تكون مهمة (الكمين) الدفاع، ولنا أن نتصور مدى الحركة في مثل هذه الأمور. بالإضافة إلى إثبات فروسية كل منهم، وحينئذ يشيع اسم الفرس التي برزت بالسباق والمناورة على غيرها من الخيول الكثيرة المشاركة.
أدوات القتال في هذه المسرحية التراجيدية (الخيزران) ومع ذلك فإن الدماء تسيل فعليّا من هنا وهناك في أجساد بعض المشاركين، والخيزران تجرح لكنها لا تكسر العظم ولهذا السبب اختيرت لهذه المعركة، ومثلما يشيع اسم الفرس يشيع اسم الفارس الذي جُرح في المعركة. ويكون جرحه وساماً له بين الناس.
   
(كأنه يثبت مقدرته في أداء دوره التمثيلي)
-    جميعهم يثبتون هذه المقدرة، لأنها تمثيلية حية وعلى الطبيعة، كذلك فإن النساء ترافق الموكب فتطلق الزغاريد تشجيعاً، فيشاركن مشاركة فعلية في هذه المسرحية .

هل هي مستمرة حتى الآن في نطاق دير الزور على الأقل؟
-    بل توقفت مع الأسف.. والسبب عدم وجود الخيل، وعدم وجود من يعنى بها.
   
واضح تأثرك، بل حزنك على انقراضها
-   أتمنى لو أنها صُوّرت كوثيقة للتاريخ، أو لو يعاد تسجيلها وثائقياً، لأنها كانت ممتعة وكانت تثير الحماسة والنخوة للدفاع عن الحق.
    (يتبع......)