سن التقاعد.. حل مؤقت لأزمة مستعصية.. بقلم:محمد خالد الأزعر

سن التقاعد.. حل مؤقت لأزمة مستعصية.. بقلم:محمد خالد الأزعر

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٣٠ مايو ٢٠٢٣

توجه حكومة الرئيس ماكرون إلى إجراء إصلاحات جوهرية في نظام التقاعد الفرنسي، أحدث موجة كبيرة من الجدل وردود الأفعال الداخلية، التي بلغت ذروتها باندياح تظاهرات احتجاج مليونية غمرت شوارع البلاد على مدار الأشهر الثلاثة الأولى منذ بداية العام الجاري. وفي غضون هذا المشهد، شكك كثيرون، داخل فرنسا وخارجها، في صلابة الأليزيه وقدرته على الاحتمال في عملية عض الأصابع مع قوى المعارضة والرأي العام الغاضب.
لكن ما جرى هو انفضاض سامر هذه الأزمة ومناظراتها لصالح الرئيس وحكومته، بعد تأييد المجلس الدستوري، أعلى هيئة قضائية فرنسية، لمشروعهم برفع سن التقاعد من الثانية والستين إلى الرابعة والستين.
ومما يمكن استلهامه بالخصوص، أن رؤى صانع القرار وتقديراته للمصالح الوطنية العليا، تتخطى في بعض الأحايين الحسابات ذات الطابع الشعبوي. وقد تتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة، لا تنحني أمام المناكفات الحزبية والسياسية قصيرة النظر أو محدودة الأجل.
من اللافت أيضاً، أنه على الرغم من بعض العنف الانفعالي الذي صاحب الحراكات الشعبية والحزبية المضادة، ورغبة الرئيس وبطانته في الحزم ولغة الحسم، إلا أن الأخيرين التزموا الجادة الحقوقية القانونية، منذ طرح مشروعهم إلى أن تم إقراره.. وبينما سادت الظنون بأن الرافضين سوف يفرضون كلمتهم في التحليل الأخير، عبر ضغط الشارع وسطوته وكلمته، انصياعاً للقيم والمثل الديمقراطية، ثبت أن جراب أصحاب المشروع لا يخلو من بدوره من عصا الديمقراطية وقواعدها، بحيث إنهم لم يكونوا بحاجة لتمرير رؤيتهم بالإكراه.
ومؤدى ذلك، أن حكومة ماكرون استخدمت صلاحيات دستورية تسمح بفرض التغييرات المتوخاة، من دون الرجوع للمؤسسة النيابية بكل حمولتها من المزايدات والمناقصات الحزبية السياسية وغير السياسية. العبرة هنا أن التشاكس والاصطكاك المجتمعي، انتهى بالاحتكام إلى كتاب الديمقراطية الذي يحتوي بين دفتيه على ما يرضي الجميع.
من الأسئلة المفصلية الموصولة بهذه القضية، ما إن كان رفع سن التقاعد لعامين فقط، يستدعي كل هذه الهوجة بكل ما فيها من نقاشات وتجاذبات، طالت معظم جوانب الاجتماع السياسي والاقتصادي في الدولة؟ ظاهر الأحوال والدفوع الحكومية المعززة بمداخلات أهل التخصص، توحي بأن التعديل العتيد يستحق بالفعل ما أحاط به تفاعلات.
وموجز هذا التصور أن المجتمع الفرنسي، بات يعاني جدياً من ارتفاع معدلات الشيخوخة العمرية، حتى أن نسبة من تزيد أعمارهم هناك على 65 عاماً تبلغ الآن 19.5 %، الأمر الذي راح يضغط بقوة على نظام التقاعد، بحيث أصبح هناك أفراد يعيشون لسنوات أكثر في الوقت الذي يشح فيه عدد الموظفين الأصغر سناً.
وكانت النتيجة أن الدولة أمست تتحمل في عام 2022 ما نسبته 14.5% من الناتج الإجمالي لصالح برامج التقاعد. وهذا عبء ثقيل سيؤدي في الأجل المنظور، ناهيك عن الآجال الأطول، إلى انهيار هذه البرامج بشكل لا تحمد عقباه. كأن الصرامة الحكومية، المشفوعة بالظهير الدستوري، عمدت إلى تلافي تطور وضعية مرشحة للتداعي والتدهور إلى ما هو أسوأ.
لاسيما في ضوء التأكد من استحالة الاستمرار في تعويض تكاليف التقاعد الباهظة برفع معدلات ضرائب الدخل، التي بلغت في العام 2022 نحو 45 %، وهي الأعلى قياساً بمثيلاتها في الرحاب الأوروبية. لكن ربما كان الخبر المزعج في هذا السياق، أن العمل الفرنسي بسن التقاعد الجديد، ليس أكثر من دواء مسكن لمرض عضال.
نجادل بذلك وفي الخاطر أن معظم الشركاء الأوروبيين، يعملون وفق أنظمة تصل التقاعد بأعمار أطول، تبلغ عند البعض إلى السابعة والستين (كالدنمارك واليونان وأيسلندا وايطاليا).
ومع ذلك، فإن معاناتهم من توابع ضعف الخصوبة ونقص المواليد، والعجز السكاني عموماً عن الوفاء بالعناصر البشرية اللازمة لانتظام دواليب التوظيف والعمل أو الإنجاز الاقتصادي بعامة، لا تقل أبداً عما يعانيه المثل الفرنسي. القصد، أن تمديد سن التقاعد للرجال، لا يعدو كونه إجراءً واحداً مأخوذاً به ومطروقاً ومجرباً أوروبياً بالفعل، ضمن مروحة واسعة من التدابير المطلوبة للتصدي لمعالم العجز الديمغرافي.
ومن أجل أن يؤتي هذا الإجراء أكله لفترة ممتدة، قد يتعين على صناع السياسة والقرار الفرنسيين، الاستطراد إلى تدابير رديفة أخرى مقترحة بين يدي محاولات معالجة هذه القضية
. ومنها إطالة عطلات الأمومة والأبوة، وتوفير خدمات رعاية الأطفال وحضانتهم بالمجان، ومنح محفزات مالية للأسر كبيرة العدد، وتقديم منحة سكن مجزية للمقبلين على الزواج، وتقنين التقاعد المبكر للأمهات على أمل تبكيرهن بالحمل والإنجاب، وزيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في أداء بعض المهن. هذا كله، علاوة على التوسع في استقبال العمالة المناسبة، وبشروط ميسرة ومغرية، من بين المهاجرين والوافدين من دول الوفرة السكانية.